آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 11:37 ص

حوارات الرياض

حسن المصطفى * صحيفة الرياض

كان الطقس باردا، أكثر حدة مما توقعت، أنا القادم إلى العاصمة السعودية الرياض، بعد غياب لأكثر من عام ونيف!

المدينة تتسع، وسنوات دراستي الست التي قضيتها في جامعة الملك سعود منتصف تسعينات القرن المنصرم، لم تمنحني معرفة كافية بالمدينة التي تغيرت، وبت عندما أخرج في طرقها وأحيائها كأني ضائع في أحجية، لا أميز الشرق من الغرب.

ليس المعمار وحده ما تبدل، السلوك الاجتماعي هو الآخر، وأنماط الحياة، وطريقة تقديم الناس لذواتهم.

لم تعد هنالك تلك السطوة التي كان يمارسها نفرٌ من المحتسبين المتشددين، والتي جعلت حيوات قاطني العاصمة أكثر ضيقاً.. اليوم، مساحة الحرية الاجتماعية أكبر، ويمكن أن تتلمس ذلك من خلال الفتيات السعوديات، اللواتي بتن أكثر انطلاقاً وقوة، فكثير منهن في سوق العمل، سواء في الشركات الكبرى والوزارات والبنوك، أو محلات البيع الصغيرة في المجمعات التجارية، تراهن يرتدين البراقع، أو متحجبات، أو لا، هن يمارسن ما يعتقدن أنه مناسب لشخصيتهن دون قلق من عين الرقيب أو عصاه الغليظة.

عائلات، فتيات وشباب كثر كنت أراقب سلوكهم في المطاعم، المقاهي، الأسواق؛ وجميعهم كن علامات لا تخطئها العين على عمق التغير الحاصل في المجتمع السعودي.

المسألة أبعد ما تكون عن حجاب من عدمه، أو عباءة وبنطال، وإنما ترتبط بأن هنالك مفاهيم جديدة باتت يوماً بعد آخر أكثر قبولا في المجتمع، ترتبط بشكل مباشر ب: الفردانية، حرية الاختيار، الخصوصية الذاتية، التعددية الثقافية، نمط الحياة المدني.. وجميعها على تواشج مباشر ب» حق الإنسان» في العيش الكريم دون إكراهات.

الحوارات البينية، السياسية والثقافية والاجتماعية والدينية والاقتصادية.. هي الأخرى، تجدها أكثر عمقاً، تحرراً، شفافية، صدقاً، وبلغة غير مواربة، ذات طابع متجاوز للمناطقية والقبائلية والمذهبية.. هذا ما وجدته في جلسات النقاش الطويلة والماتعة مع عدد من الشخصيات السعودية المتوازنة والمثقفين والأصدقاء. فجميع من التقيت بهم مشغولون ببناء دولة المستقبل، وترسيخ سيادة القانون، والتخفف من أمراض الماضي وأثقاله.

لا أدعي أن هذا النوع من النقاشات هو السائد لدى الجميع في العاصمة وبقية مدن السعودية، لأن ذلك أمر محال، وليس متحقق في أي دولة أخرى. إلا أن وجود لغة مشتركة ليس بين نخبة محددة وحسب، بل تمتد لطبقات مختلفة، وفئات عمرية متنوعة، لهو دليل على وعي مدني آخذ في الاتساع يوماً بعد آخر، والأهم أنه ليس مجرد أفكار نظرية، بل تحول إلى سلوك فردي، وثقافة عائلية، يكون فيها الحوار وقبول الاختلاف جزءا من تكوين الأسرة.

السفينة تسير في الاتجاه الصحيح، والتنمية لن تتوقف، وعقارب الساعة لن تعود إلى الوراء. هنالك مطبات، أمواج عاتية، رياح عاصفة؛ وكل ذلك أمور طبيعية، متوقعة، لأننا لسنا بدعاً بين الأمم، لكن الأهم أننا مستمرون بقوة وإصرار ووعي في ورشة الإصلاح والتطوير.