آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 1:33 ص

ثقافة كاميرا الهواتف المحمولة

محمد الحرز * صحيفة اليوم

لا أبالغ كثيرا إذا ما قلت إن حياة الناس اليومية أصبحت مرئية ومشاهدة للعيان حتى في أدق تفاصيلها، وهذا يعني فيما يعنيه انعدام الخصوصية الفردية والأسرية والاجتماعية، والمبالغة تأتي هنا في سياق التساؤل الذي يطرحه الفرد على نفسه: هل من صفات العقل والحكمة أن يقبل الإنسان أن يكون تحت الأنظار في كل دقيقة ولحظة من خلال عدسات آلة التصوير سواء في الموبايل أو من خلال البرامج الواقعية التي ترصد تجارب الناس في حياتهم اليومية، أو المناسبات الفردية والأسرية والاجتماعية التي تضخمت وأصبحنا كل يوم نشاهد مناسبة هنا ومناسبة هناك تحضر فيها الكاميرا بحيث تكون هي الحدث الأهم، أما المناسبة نفسها فتكون هامشية.

ما يهم في مثل هذه المناسبات هو أن تكون الكاميرا حاضرة للتوثيق، وإبراز المحتوى بصورة تنافسية، لأن وظيفة التصوير لم تعد كالسابق، توثيق اللحظة كي تستدعيها الذاكرة في أيام لاحقة، بل أصبحت وظيفتها الأساس، هو وضع المحتوى ضمن سياق تنافسي مع صور الآخرين، وهو بدوره يؤدي مهمة واحدة، غايتها لفت الانتباه بطريقة تكون أكثر انجذابا، وحصد الإعجابات، والحصول على مشاهدات عالية، ووضع «الليكات» الكثيرة.

وما يجعل هذا السياق التنافسي مهيمنا ومؤثرا في مجمل تلك العلاقات التي تحكم الإنسان في الحياة، هو ما وفرته تقنية التواصل الحديثة والمتطورة بسرعة متزايدة في الحياة المعاصرة، من أدوات وآلات مختلفة الأشكال والأنواع، تمتاز بسهولة في الاستخدام، وتصنيعها بكميات كبيرة، وبأثمان رخيصة، وقدرة أيضا على إغراق السوق، ويساعدها على قوة التأثير كذلك تركيز الدعاية والإعلان في الطاقة الجبارة التي تكتنزها الأبعاد البصرية والسمعية في جذب أكبر قدر ممكن من التأثير على الناس.

فكاميرا الهاتف المحمول على سبيل المثال لعبت دورا كبيرا في تغيير المسار العام لمجمل العلاقات الإنسانية، ففي السابق كانت المناسبات الرئيسية، وبالخصوص العائلية كالزواج أو مناسبات الأفراح على العموم يعيش أصحابها اللحظة، ويتمسكون بها كالأطفال الذين لا يريدون أن تفوتهم دون أن يندمجوا فيها أو يشغلهم شاغل عنها، وآخر تفكيرهم أو حتى اهتمامهم أن تكون الكاميرا تحت أنظارهم وهم يمارسون فرحهم ببراءة ودون تكلف، حتى وإن كانوا جلبوا لهذه المناسبات من يقوم بدور التصوير، ومن منكم يرجع إلى مناسباته العائلية في الثمانينات الميلادية وهي مصورة سيلاحظ وكأن الكاميرا تدور بعفوية ولا تلتقط شيئا غير مألوف بين الناس سواء في سلوكهم أو مشاعرهم مع بعض في هذه المناسبة أو غيرها، بينما الآن اختلف الوضع تماما «حتى وإن أخذنا بعين الاعتبار ظاهرة التطور التقني والحياتي للناس» بحيث أصبحت الكاميرا هي البطل في مثل تلك المناسبات، إذ أغلب التقاطات الكاميرا مصطنعة، وفي الغالب المشاعر والأحاسيس تكون مصطنعة ومؤقتة لأجل لحظة التصوير فقط، حيث يدرك من يقف أمامها لا شعوريا أنه بمجرد أن يكون تحت أنظار العدسة، سيكون مرئيا وجاذبا بمقدار ما تكون اللقطة تحتل القمة في سياق المشاهدة التنافسية.

لذلك فقدت الحياة عند الكثير من الناس براءتها، وحميمية العلاقات القائمة بينهم أفسدها الحضور الدائم للكاميرا حتى دخلنا في نفق تضخيم صورة الذات بصريا وسمعيا وكتابيا، وأصبحت الكاميرا كالغول الذي يرعب الناس لحظة التضحية. لكنها تقدسه في ذات الوقت وتعطيه الغرابين تلو الغرابين كي ترضي رغباتها ونزواتها.

والأكثر مرارة هو ضياع القيم الأخلاقية وراء بعض الغايات للصور والمشاهد التي ترى فيها بعض الأشخاص من يقوم بعمل خيري ووجهه بكامل أناقته ملتفت إلى الكاميرا التي تصوره وكأنه عارضة أزياء. مشاهد من هذا القبيل تجعل من النفاق الاجتماعي سلوكا يتأصل بالخصوص لو بدرت من شخصيات لهم صفة النجومية بين الناس.

وبالتالي يصعب التمييز بين من هو يسعى جاهدا لفعل الخير دون ضجة إعلامية أو كاميرا مصاحبة له، والحقيقة هناك الكثير منهم. لكن المشكلة كيف نجعلهم قدوة دون تعرضهم لتأثيرات الكاميرا.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
نقاء السماء
[ تاروت ]: 30 / 1 / 2021م - 1:44 م
أحسنت أخي الفاضل
للأسف الشديد أصبح الأكثرية في زمننا همهم الأول في هذه الحياة أن يراهم الآخرين في كل تفاصيلهم اليومية ، لدرجة ان البعض يلتقط الصورة وهو في أدق تفاصيل الحياة ،،،
في المقبرة وهم يزورون الموتى يصورون، اثناء الدعاء والصلاة يصورون، في المستشفى وهم على سرير المرض ويصورون ،
نخشى أن يأتي يوماً وهم ينشرون صورهم حتى في بيت الخلاء ، وأخيراً نقول لهؤلاء :
قليلاً من الحياء
قليلاً من الذوق
وكفى تخبطاً وعشوائية .