آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 1:31 ص

«يقينيات» الشاعر

محمد الحرز * صحيفة اليوم

«هناك شعراء موهوبون بمعنى الكلمة. لكن للأسف «اليقينيات»، التي تطبع تفكيرهم ونفسياتهم ونظرتهم للعالم والحياة والآخر هي مثل المصيدة، التي تحد من حركة وفاعلية تلك الموهبة».

هذه العبارة المنصوصة بين قوسين هي واحدة من التغريدات، التي أضعها على حسابي في تويتر بين الفينة والأخرى، ونظرا لكثرة التعليقات، التي وردت عليها بين مؤيد ومعارض، بين من يشكك أصلا في مسألة اليقينيات، ويعتبرها ضرورة للإدراك الإنساني لا يمكن الاستغناء عنها، ومَنْ يؤول كلمة «اليقينيات» بطريقة تبعدها عن حدود التجربة الشعرية إلى آفاق تتعلق أصلا بالمشكلات الفلسفية والفكرية، وما ينتج عنها من مقولات وقضايا لا تخرج عن حدود الفكر والفلسفة، وإن كانت ثمة صلة بينها وبين الشعر، ولو جاء ذلك بطرف خفي.

صحيح أن التغريدة السابقة تتسم بالاختزال والتلميح دون التصريح أو التفصيل. لكن في مثل هذه الحالات كتويتر وغيره من مواقع التواصل الاجتماعي، لا تحتاج منك سوى أن تثير غريزة التساؤلات حتى تكون هناك أرضية مشتركة للحوار والنقاش، وهذا ما حدث تماما مع هذه التغريدة.

ورفعا لكل التباس، ورغبة ملحة للمضي قدما لتأمل مسألة «اليقينيات» فيما يتعلق بالتجارب الشعرية من العمق، ورغبة أكثر للوقوف على بعض التفاصيل المهمة، التي لم يتطرق لها أحد فيما أظن حول هذه المسألة تحديدا.

وعليه نقول: اليقين في وجه من وجوهه، فيما يتصل بحدود التجربة الشعرية هو انصراف الذات الشاعرة عن خبرتها الروحية باعتبارها خبرة تتغذى على تناقضات الإنسان أمام الحياة والوجود، وتلمس طريق هذه التناقضات، إحدى المهمات الكبرى للشاعر.

تتوجه المعاجم العربية في تعريفها بمصطلح اليقين إلى ارتباط إدراك الإنسان بشيء خارجه: يقن الشيء: ثبت وتحقق ووضح، ويتوزع هذا الارتباط على جميع الحقول المعرفية، من فقه، وفلسفة ونحو وصرف، وكان هذا المعنى وثيق الصلة عند الشعراء العرب، يقول المتنبي: نفت التوهم عنه حدة ذهنه.. فقضى على غيب الأمور تيقنا، ويقول أبوالعلاء المعري: أما اليقين فإننا سكن البلى.. ولنا هناك جماعة فرّاط. بينما ابن الرومي يقول: ورجاؤنا فيك اليقين بعينه.. ورجاؤنا في غيرك الترجيم.

ثلاثة أبيات شعرية عند ثلاثة شعراء كبار، حيث ارتبط معنى اليقين في بيت المتنبي بعلم الأمور الغيبية، أما أبوالعلاء فارتبط عنده بالموت باعتباره حتميا، بينما عند ابن الرومي جاء في سياق الممدوح كصفة له تلازمه. وهناك الكثير من الشواهد، التي تعزز مثل هذا المنحى في ارتباط مصطلح اليقين عند العرب شعريا وفكريا بشيء خارجه.

وكما ترون لا أرمي من وراء ذلك سوى تبيان أننا لا نقصد هذا المعنى من اليقين الواضح الدلالة، وإنما هو وفق تعريفنا السابق يتصل اتصالا كليا بذات الشاعر وشخصيته، والعوامل البيئية والثقافية والتربوية والروحية، التي تكون مجموع هذه الشخصية، وهي بالتالي كامنة في العمق من سلوكه ونظرته للحياة والعالم والوجود، ولا تتوضح في قصيدة أو قصيدتين. لكنها مبثوثة في ذلك الخيط الجامع للتصورات، التي ترافق تجربته الشعرية على طول خط الزمن.

ولو أخذنا على سبيل المثال شاعرين كبيرين كالمتنبي وابن الرومي وقارناهما وفق تعريفنا السابق نرى هذا الأخير يقول: أقرُّ على نفسي بعيبي لأنني.. أرى الصدق يمحو بينات المعايب، لؤمت - لعمر الله - فيما أتيته.. وإن كنت من قوم كرام المناصب. بينما المتنبي يقول: ما أبعد العيب والنقصان من شرفي.. أنا الثريا وذان الشيب والهرم. التفات الذات إلى عيوبها عند ابن الرومي بخلاف تضخم الأنا عند المتنبي هما طريقان مختلفان في إبراز الخبرة الروحية للشاعر. إن اكتشاف عيوب الذات وتناقضاتها هو من صميم ما نريد قوله في تلك التغريدة بينما خلاف ذلك أجد أمامي تجارب شعرية محلية - سأتناولها في مقال لاحق - تعزز منحى ذلك التضخم وترسخه.