آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 6:17 م

وداعا أسطورة كرة القدم «14»

عبد العظيم شلي

برشلونة مدينة عريقة ذات وجهة سياحية ومكانة رياضية، وتستمد عراقتها من معالمها الثقافية وآثارها الحضارية، بالإضافة إلى روحها العصرية.

الرياضية زادتها بريقا وحضورا أمميا، عبر ناديها الأشهر الذي يحمل اسمها، كلاهما مرتبطان بقلب واحد ينبضان بحب المكان كحاضرة للكتلونيين، والنادي خير سفير وتجسيد هوية، وليس مجرد ناد رياضي، إنما شراكة مجتمعية ومؤسسة تنموية ربحية، وبوصلة عشق لمشجعي كرة القدم في أقطار العالم، ومحفز شبابي، ومورد اقتصادي، ومنبر إعلامي، ناد رائد حفر اسمه بماء الذهب.

القيمون على إدارة النادي بمختلف أسمائهم وتعاقب أزمانهم، استثمروا ميزانيات ضخمة من أجل رفعة لعبة كرة القدم عاليا، لأنها اللعبة الأبرز والأكثر جاذبية مقارنة بالألعاب الأخرى، فاستجلبوا أغلى اللاعبين وتعاقدوا مع أكفأ المدربين في سبيل تعزيز مكانة فريقهم عالميا، وكان لهم ما رادوا على مدى 122 عاما من الكد والتعب والتضحيات، وغدا البرشا على كل لسان، وإنصافا ليس وحدهم في الميدان هناك أندية عريقة تماثلهم في أكثر من بلد.

كرة القدم لعبة متجددة لا تمل الأعين من مشاهدتها، هي متعة مستمرة وتجارة رابحة، لا يختلف اثنان على حضورها الطاغي في كل مكان، هي اللعبة الشعبية الأولى عالميا، تتهافت عليها إدارات الأندية قديمها وحديثها في سبيل المنافسات وكسب رهان الفوز.

تحرص أغلب حكومات العالم على دعمها وتنظيمها والإشراف عليها ودفع عجلتها قدما للأمام، هي أم الرياضات، تستحوذ على ذهنية الجماهير في شتى مشارق الأرض ومغاربها، تتأهب حضورا لرؤية المباريات أو عبر الشاشات، تحجز تذاكر سفر، فتعج المطارات بالأنفس، تدافع محموم لدخول الملاعب بلهفة جامحة، جلوس على المدرجات، ووقوف تحية لنجوم المستديرة، هتاف وصراخ تشجيعا للنادي المفضل، ومؤازرة بكل قوة، وقوفا مع منتخب البلاد، تصفيق حار وصفير ودق طبول طمعا في هز الشباك، أهداف تجلب السعد وتجعل الأجساد ترقص دون وعي، يرفع درع دوري أو نيل كأس، نشوة نصر جامحة تخترق المسافات وفرح جماعي عابر للحدود، كرة القدم سحر لا يقاوم

تسعى أوطان للتسابق باستضافة كأس العالم، والمحظوظ من يحظى بشرف التنظيم على أرضه، عندها يستنفر كل شيء، طاقات تجند وعلى جميع المستويات، البشرية والمالية والفكرية والإعلامية والفنية وغيرها، من أجل إنجاح العرس الكروي العالمي، لأن عائد الربح كبير معنويا وماديا.

ينظر للاعبي كرة القدم كفرسان في أرض معركة أما فوز أو خسارة، وكلاهما نجوم لامعة يتفوقون على جميع الأفراد الممارسين للألعاب الأخرى، والمشاهير منهم شبهوا بالأبطال واعتبروا رموزا وطنية، مثل الفتى الذهبي مارادونا الذي احتل مكانة كبيرة في نفوس مواطنيه صغيرهم وكبيرهم، ابتدأ من الإنسان العادي إلى أعلى رجل في هرم السلطة، وهذا عائد لإمكانياته اللامحدودة في لعبة كرة القدم وكذا جلبه النصر لبلاده الأرجنتين.

الفتى ارتدى قميص برشلونة كأول حضور له على الصعيد الأوروبي، نادته الجماهير بحب وحسد وكمية غضب وإعجاب وأسف، قميص لبسه بزهو ماذا فعل لأجله وماذا ارتد عليه؟، جرى به هائما على العشب الأخضر بكل قوة، حضر وأطرب، صفق له من صفق حتى الخصوم، وأبناء برشلونة حيوه حبا وكرامة.

ذاك القميص المخطط بالأزرق الغامق والأحمر عنوان ورمز، شعار يتألق في أجواء مدينة برشلونة عبر شوارعها الضاجة بالبشر، بدلات مصفوفة صفا باستعراضات دعائية عبر متاجر النادي الموزعة في كل حي وساحة، تسويق على أشده، بدلات، وكرات، وأزياء رياضية متنوعة، والمتيمون بالشعار كثر، إقبالا على الشراء كتذكار للنادي وحنين لرائحة المدينة.

يقع أكبر متاجر النادي في منطقة ”ساغرادا فاميليا“ حيث تأخذ اسم الكنيسة عنوان لها ”La sagrada Familia“ أو كنيسة ”العائلة المقدسة“ وهي كنيسة رومانية تعد من أضخم كنائس أوروبا، تتوسط ساحة واسعة تعج بالسياح من كل حدب وصوب، لرؤية تحفة العبقري ”قودي“ المعمارية، بناء مذهل وطراز متفرد بعلوها الشامخ وشكلها الغرائبي، المتجر يحاذيها جوارا ويستقبل ظلالها المقدسة.

ما أن تدلف للمتجر تستكشف في داخله بعدا آخر يفضي بك إلى متحف مصغر، يستعرض تاريخ وانتصارات نادي برشلونة صوتا وصورة، سياح تتوافد، الفضول يسبقهم وكاميراتهم توثق الذكرى.

سحت في ربوع برشلونة كطائر يحط فوق الشجر، تفيأت تحت ظلال تاريخها وفنونها ورقيها وتقدمها، وأبصرتها من أوجه عدة.

ومع أخر يوم في كنف المدينة واصلت التجوال بصحبة العائلة، مررنا بمحلات قديمة وأخرى عصرية، ودلفنا داخل سوق الخضار الآسرة للنظر بشكلها وتصميمها المميزان، تنوع المعروضات وإغراءات الأطعمة الشهية، ومن عبق السوق حدث لنا موقف لا ينسى كان في محفظتي عملة ورقية بقيمة 500 يورو مررت بها كدلال على كذا محل تجاري من أجل صرفها وبعد أن أعيتني الحيلة وجدت الصرف بين شذا الفواكه والليمون وروائح البهارات ومذاق الأجبان وأشهى المخبوزات.

سوق خضار برشلونة أحد رموزها العتيقة، والمعروف باسم ”لابو كو يريا“، أقدم سوق خضار بأوروبا، يجد الزائر ما لذ وطاب بين جوانبها المتعددة، مكان أصيل تفوح من جنباته عراقة الماضي التليد وحكايات الأمس البعيدة.

مدينة برشلونة عاصمة إقليم كاتلونيا لها مكانة بين مدن العالم، ولأهميتها وجدارتها، فقد تفردت عن بقية المدن الأسبانية بشرف تنظيم الألعاب الأولمبية عام 1992،

إنها مدينة مفتوحة على كل شيء، عصرية وقديمة، حديثة وعتيقة بإرثها الحضاري المتجدد، وأعلام الحمية الكتلوية ذات اللونين الأصفر والأحمر ترفرف أثناء المباريات، ومتدلية على شرفات المنازل رمزا للعزة القومية، والأنفة الإقليمية، للقوم مراودات شعبية مشاعل لا تنطفئ جذوتها، حبا وطمعا لنيل الاستقلال عن سلطة مدريد، فكرة الانفصال عصية عليهم برعم النزعة المتأججة في النفوس المتوارثة من جيل إلى جيل، التنفيس يفتح مداها في عالم كرة القدم، ما لم يتحقق على أرض الواقع يجلب السعد وحب الانتقام بهز الشباك ضد الخصوم، و”كلاسيكو الأرض“ لم يأت من فراغ فكل التنابز القومي والاضطهاد السياسي الموزع بين العاصمة والأقاليم والذي زاد أواره أثناء الحرب الأهلية الأسبانية الطاحنة خلال عقد الثلاثينيات من القرن الماضي انعكس تحديا وتنافسا محموما طوال تاريخ الدوري الأسباني والناظر لمباريات الغريمين التقليديين البرشاء والريال لا يحسب بأنه يرى كرة قدم نقية إنما تخرج كل العقد السياسية على أرض الملعب.

رشلونة مدينة مفتوحة على المقدس والمدنس، ومقصد للسياح من كل مكان، مدينة فاتنة وآسرة، بلد التناقضات، ومزدوجة اللغة والثقافة وتزاوج بين هويتين، قشتالية ناطقة بالأسبانية وكتلانية ناطقة باللغة الكاتالونية.

مدينة ملهمة للإبداع، وأصبحت فضاء رحبا لكثير من الروائيين الكبار من أمثال ”خوان مارسيه“ التي تروي أعماله قصصا عن مدينته برشلونة، والكاتب العالمي الذي لم يعمر طويلا ”كارلوس زافون“ صاحب الملحمة الشهيرة عن مدينة برشلونة ”ظل الريح“، و”إدواردو مندوثا“ بروايته الأولى ”الحقيقة في قضية سابلوتا“ تتناول الحياة في برشلونة، والمستعرب ”مانويل فاسكيز مونتالبان“ المتضامن مع العرب، بقصصه البوليسية عبر سواكن وشوارع المدينة، و”جوردي بونتي“ عبر روايته ”حقائب مفقودة“ أحد الأعمال المهمة في الأدب الإسباني المعاصر، وكل هؤلاء من أبناء المدينة ومن يقرأ إنتاجهم الفنتازي، يرى برشلونة مختلفة، يبصرها بعيونهم ويستكشف جوانبها الأسطورية وبعدها المخفي واللامرئي.

تقول الكاتبة مايا الحاج: ”برشلونة في السينما كما في الرواية، هي فضاء متحرك، قابل للتمدد والتقلص، التجدد والتحول، إنها مدينة ملهمة سينمائيا، بدليل عشرات العناوين التي اتخذت منها مسرحا لأحداثها، ومن أشهرها فيلم المسافر“ مايكل أنجلو أنطونيوني ”، و“ فيكي كريستينا برشلونة ”“ وودي آلن ”، و“ بيوتيفول ””اليخاندرو غوانزاليس إيناريتو“، وإذا بحثنا عن التركيبة السحرية لهذه المدينة، سنجدها حاضرة في أعمال كثيرين من ثرفانتس إلى خوان مارسيه، مرورا بجان جنيه وغريغوار بوليه، برشلونة هي مغزل الحكايات والأساطير“.

وأيضا هي موطن أساطير لعبة كرة القدم من أنحاء العالم، وكل لاعب له حكاية وذكرى.

لقد ذرعت المدينة، بعين المحب العاشق لها، رأيتها واقعا وعبر مرايا المبدعين، وحين أسهبت في وصفها سفرا لأنها فرضت حضورا مشاكسا على مسيرة الفتى الذهبي والذي ظن بأنها الفردوس الموعود، هام فيها حبا ولكنها نبذته في اليم، هي من أغوته عبر ناديها الأغلى، هي من فتنته سهرا وصخبا عبر حاناتها ونواديها الليلة، هي من دست له السم في العسل باستنشاق المخدر، برشلونة بالنسبة إليه كانت حلم ليلة صيف، وانعطافة تمرد، ومفترق طرق، حتى كادت حادثة أن تنهي حياته الرياضية للأبد!.