آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 11:37 ص

صوت في جنح الليل

ما بين أيدينا من مناجاة للإمام علي السجاد هو حصيلة تلك الخلوات التي ينفرد فيها في وسط الليل حيث تهدأ الأصوات ويخلد الناس للمضاجع، ولكنه يحركه الشوق إلى الرحمة الإلهية فيتحرك لسان الصدق والإيمان منه بصوت هاديء حزين، يردد فيه تلك الكلمات النورانية التي تنبيء عن معرفة بمقام العظمة والجمال الرباني، وتفيض تلك الحروف المتلألئة بمعالم طريق المعرفة بالله عز وجل وتهذيب النفس بمكارم الأخلاق، مضامين عالية احتوتها تلك المناجيات جديرة بالتدبر والتأمل واتخاذها مسلكا في تكامل النقس وترقيها في درجات الفضيلة والتخلي عن العيوب والنواقص.

هذه الأدعية المباركة وصال أهل الحب والقرب والأنس بذكر الله تعالى، تنير قلوبهم بالطمأنينة والنزاهة وتشرق عقولهم بومضات الحكمة والوعي.

وتلك المناجاة يمكن فهم مضامينها ودلالاتها والأهداف المتوخاة منها من خلال قراءة السيرة المتكاملة التبليغية للإمام السجاد ؛ لينتفي حينئذ كل فهم قاصر وشبهات ترد على الأذهان حول حقيقة الدعاء وفائدته ودوره في حياة الإنسان، حيث يتصور البعض بأنه مجرد طقوس وترداد كلمات مقدسة تنفصل تماما عن دور الإنسان في الحياة، وآخر يرى - اشتباها - بأنها نوع من المسكنات التي يتعلل بها الإنسان ويخفف من خلالها ما يواجهه من مشاكل وهموم، ولذلك فشخصية الداعي تخفق في تحقيق الآمال وتبدو منكسرة أمام ظروف الحياة الصعبة، بخلاف شخصية الإنسان المادي الذي يتسلح بالعلم ويتميز بعلو الهمة والجد ويحقق أهدافه الواحد تلو الآخر!!

الحقيقة أن الدعاء أحد أهم قوى الإنسان في تحقيق الحياة الوازنة المستقرة، وذلك لمردوداته ونتائجه المنعكسة على مختلف أبعاد الشخصية، وسيرة الإمام السجاد في علاقته بالله عز وجل وما أورثته من طمأنينة وأنس بذكر الله تعالى وشجاعة وحكمة في المنطق والتعامل الخلقي الرفيع مع الناس وحمل رسالة التبليغ وتعليمهم وإرشادهم للحق والهدى، والوقوف في وجه الظلم والطغيان وتحذير الناس من الولوج في منحدره والتلبس بمفرداته، كلها نتاج تلك التربية الروحية التي عاشها الإمام السجاد طوال حياته وحرص على إتيانها آناء الليل والنهار، فتلك المناجاة تمثل طاقة روحية يتبدد من خلالها كل الهموم المتراكمة الناتجة عن متاعب الحياة والأزمات التي يمر بها المرء، ويشكل دافعا قويا نحو العمل المثابر والدؤوب دون ملل أو كلل، وذلك أن الدور الوظيفي للإنسان في الحياة هو السعي باستمرار نحو جني وتحقيق الأهداف في مساره التكاملي والتخلص من العيوب والنقائص، ألا يكفي هذا التصوير لحقيقة المناجاة في فهم دورها الإيجابي المثمر في تكوين الشخصية الرسالية القوية المعطاءة؟!

وإذا نظرنا بكل تأمل وتدبر وتفكير واع في مقاطع أدعية ومناجاة الإمام السجاد ، فسنجدها تحفة أخلاقية وتربوية تدعو لتطبيق روح ومفاهيم تهذيب النفس والتحلي بالأخلاق الرفيعة، وهي دعوة للانفتاح على روح التوحيد وتنشئة الفرد على تعظيم الخالق والثقة بتدبيره ووعده، مما يخلص الإنسان من ريب الشكوك والمشاعر السوداء تجاه الناس، وتدعو المرء نحو شد الهمم وقوة البأس في مواجهة التحديات والصعاب ومجاهدة النفس تجاه وساوس الشيطان الرجيم، فمن ذا الذي يستغني عن هذا الغذاء الروحي الذي ينمي قواه وقدراته؟!

اليأس والقلق من المستقبل من أهم أمراض العصر النفسية، ومردها ضعف النفس وفقدان الثقة بالقدرة على المواجهة أو النهوض مجددا بعد أي سقوط، ونحتاج في علاجه إلى بث روح الأمل وتحقيق الدفع النفسي الذاتي المحفز نحو الإيجابية والوقفة الشجاعة المتحمل فيها المسئولية، والتربية الروحية من خلال المناجاة والأذكار التي جسدها الإمام السجاد ودعا إلى تطبيقها كأهم مصادر التغذية والتجدد والحيوية الفكرية والأخلاقية والاجتماعية، فالمناجاة برامج ودورات أخلاقية تصنع الوعي والنضج بمفاهيم ومواقف الحياة، ومن هنا نوجه دعوة نحو الانفتاح على تلك الأدعية والمناجاة الواردة عن الإمام السجاد لجعلها محورا للدراسات والكتابات والمؤلفات التي تدور حول معانيها ومضامينها ومفاهيمها؛ لتناسب لغة العصر وتكون في متناول عقول الجميع، متبعين كل الوسائل والأساليب التربوية المعينة على فهمها.