آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 4:00 م

التوجيه.. الاجبار

محمد أحمد التاروتي *

يتخذ البعض من مقولة ”النصيحة بجمل“، وسيلة لفرض الوصاية على الاخرين، انطلاقا من قناعات بامتلاك كافة الصلاحيات ومختلف الادوات اللازمة لاتخاذ هذا المسلك، الامر الذي يتجلى في التدخل في جميع الشؤون الخاصة والعامة، بحيث لا يقتصر الامر على تقديم الارشادات العامة، وانما العمل على اتخاذ ممارسات محددة، مما يسهم في سلب حرية الاختيار، والدخول في باب القهر والاجبار.

تقديم النصيحة والعمل على تقديم المساعدة، امر محمود وعملية مطلوبة، انطلاقا من مبدأ ”ما خاب من استشار“ و”أعقلُ الناس مَن جمع عقول الناس إلى عقله“ ولكنها تأخذ منحى مغايرا تماما، من خلال الممارسات غير المقبولة، والتحرك بقناعات بعدم قدرة الاخرين على الاختيار السليم، الامر الذي يتجلى في تحديد مسارات محددة، ورفض الرغبات المغايرة، انطلاقا من مبدأ ”عدم القدرة على الاختيار“، جراء الافتقار الى الخبرة الحياتية المطلوبة، مما يستدعي الاستجابة الطوعية تارة، والرضوخ الاجباري تارة اخرى، للمسارات المحددة سلفا للحصول على ”الرضا“، وعدم الخروج عن بيت الطاعة.

الاختلافات في تقديم النصيحة تلعب دورا اساسيا في قبولها، فالوسائل المتبعة للتوجيه، وفتح الطريق امام الاخرين، تساعد في الاسترشاد بها، وتقبلها في نهاية المطاف، بمعنى اخر، فان طريقة طرح النصيحة عنصر أساسي، في الخروج من مأزق ”الاجبار“، فالعملية مرتبطة بالقدرة على توظيف الخبرات، وازالة اللبس وفك الغموض، وتبديد الغموض لدى الطرف الاخر، مما يفتح الطريق امام حرية الاختيار، وتحمل المسؤولية في نهاية المطاف، فالنصيحة ليست عملية اجبارية، ولكنها ممارسة اخلاقية، مما يستدعي الالتزام بضوابط ومعايير النصيحة، وعدم استغلالها بطريقة فجة، للتدخل في الشؤون الخاصة للاخرين، تحت مبررات ودواعي متعددة، فتارة من باب ”اللي اكبر منك يوم افهم منك بسنة“، وتارة اخرى من باب ”الباب اللي يجي منه الريح سده واستريح“.

الاستعانة باصحاب الخبرة للحصول على النصيحة، لا يمثل قصورا وعدم قدرة على الاختيار السليم، بقدر ما يشكل تقديرا أحيانا، ومحاولة الاسترشاد بالخيرات السابقة، وبالتالي فان العقول البشرية ليست قاصرة، على التعرف على الطرق الصائبة، والتحرك بحرية تامة، بيد ان الخشية من تكرار الأخطاء، والحرص على اختصار الطريق، يمثل احدى العوامل الاساسية لانتهاج سبيل النصيحة، في الكثير من الممارسات الحياتية، ”في التجارب عمل مستحدث“ و”هلك من ليس له حيكم يرشده“، فالنصيحة قادرة على خلق حالة من التوازن، ووسيلة لسرعة اتخاذ القرارات، نظرا لوجود العديد من الخيارات المتاحة، فيما النظرة الاحادية والاعتداد بالنفس، وتجاهل النصيحة، يدخل البعض في متاهات مظلمة، جراء اتخاذ خيارات خاطئة.

الايمان الكامل بحرية الاختيار، وقدرة الانسان على تحديد مصيره، بعيدا عن الوصاية الخارجية، والاكراه غير المبرر، عملية اساسية لدخول النصيحة في المسار السليم، فالعملية مرتبطة بالقناعات الخاصة، والثقافة الحاكمة لدى ارباب النصيحة، وبالتالي فان التحرك وفق قناعات تحمل كاملة المسؤولية، والابتعاد كليا عن ممارسات الوصاية بمختلف اشكالها، يسهم في تحريك العقول البشرية نحو ممارسة الاختيار، ورفض مختلف اشكال الاجبار، بحيث يتجلى في الوقوف امام محاولات رسم مسارات محددة، في طريقة العيش، والامتناع عن القبول بالقرارات السالبة لحرية الاختيار، خصوصا وان بعض ممارسات الوصاية تأتي مغلفة بشعارات براقة، بهدف تمريرها على الاطراف الاخرى، مما يساعد في تحقيق رغبات ”الوصاية“، التي يتطلع اليها ارباب ”النصيحة“ غير الاخلاقية.

التوجيه يبقى ممارسة أخلاقية، وعملية مطلوبة على الدوام، خصوصا وان الخبرات الحياتية تلعب دورا أساسيا في امتلاك القدرة، على اكتشاف الممارسات المفيد من غيرها، بيد ان الاجبار يخرج التوجه من المسار الطبيعي والانساني، بحيث يتحول الى سلب للقرارات، ويحدث حالة من السيطرة الكاملة، على الشؤون الحياتية للاطراف الاخرى، مما يستدعي اعادة برمجة التفكير، بما يعيد الامور الى المسار السليم، وتفادي الدخول في نفق القهر بمختلف اشكاله.

كاتب صحفي