آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 1:33 ص

أعند جهينة الخبر اليقين

قيس آل مهنا *

يتردد صداه على كل لسان ومع كل حدث وفي كل تساؤل عن صدق الخبر أم كذبه حتى تصدح الأصوات جميعها: «وعند جهينة الخبر اليقين».

وأصل المثل كما أورده صاحب عيون الأخبار:

خرج الأخينس الجهنيّ فلقي الحصين العمريّ، وكانا جميعاً فاتكين، فسارا حتى لقيا رجلاً من كندة في تجارة أصابها من مسك وثياب وغير ذلك، فنزل تحت شجرة يأكل، فلما انتهيا إليه سلّما، قال الكنديّ: ألا تضحّيان؟ فنزلا، فبينما هم يأكلون مرّ ظليم فنظر إليه الكنديّ وأيّده ببصره فبدت لهم لبتّه، فاغترّه الحصين فضرب بطنه بالسيف فقتله، واقتسما ماله وركبا، فقال الأخينس: يا حصين ما صعلةٌ وصعل؟ قال: يوم شرب وأكل. قال: فآنعت لي هذه العقاب. فرفع رأسه لينظر إليهم فوجأ بطنه بالسيف فقتله مثل قتله الأوّل. ثم إن أختا للحصين يقال لها صخرة لما أبطأ عليهم خرجت تسأل عنه

في جيران لهم من مراح وجرم. فلما بلغ ذلك الأخينس قال:

وكم من فارس لا تزدريه *** إذا شخصت لموقفه العيون
يذلّ له العزيز وكل ليث *** شديد الهصر مسكنه العرين
علوت بياض مفرقه بعضب *** ينوء لوقعه الهم السّكون
فأمست عرسه ولها عليه *** هدوء بعد ليلته أنين
كصخرة اذ تسائل في مراح *** وفي جرم، وعلمهما ظنون
تسائل عن حصين كل ركب *** وعند جهينة الخبر اليقين

وقد أصبح هذا المثل مادة لمجاراة الشعراء والنسج على منواله أما شكلا أو مضمونا أو الأثنين معا.

أولا: المجاراة في الشكل:

ويكون بشكل متطابق تام، أو بجزء من المثل، وذلك بحسب مقتضى الإشارة واللمحة أحيانا وأخرى بحسب مجرى القصيدة والقافية.

ففي النوع الأول وهي المطابقة التامة قول الشيخ علي بن الشيخ جعفر كاشف الغطاء في أبيات رقيقة لطيفة غزلية حيث يقول:

إذا ما جاء يسحب برديته *** وفي أعطافه هيف ولين
بوجه رق ماء الحسن فيه *** فراق الخد منه والجبين
وألحاظ مواض كالمواضي *** قلوب العاشقين لها جفون
سقطت على جهينته فسله *** فعند جهينة الخبر اليقين

فقد أورد النص تاما ”وعند جهينة الخبر اليقين“ كما في أصل المثل دون زيادة أو نقصان.

النوع الثاني وهو الاقتصار على جزء من المثل كفاية للمعنى وبلوغ الغاية، ومن ذلك قول الشاعر ابن سنان الخفاجي:

فَأَتَتهُمُ هَوجاء خابِطَةٌ *** كَالمَوتِ لا تُبقي وَلا تَذَرُ
تَفري وَبيضُ ظُباكَ مُغمَدَة *** كُلُّ لَعَمرُكَ صارِمٌ ذَكَرُ
ما يَصنَعونَ وَفي ذَوابِلِها *** طُولٌ وَفي أَعمارِهِم قِصَرُ
سَل جِلَّقاً عَنهُم وَما صَنَعَت *** بِهِم وَعِندَ جُهَينَةَ الخَبَرُ

فاكتفى بقوله ”وعند جهينة الخبر“ ايجازا واقتصارا جريا على السياق.

ثانيا: المجاراة في المعنى:

وهنا اتخذ الشعراء عدة جوانب فلم يكتفوا ويقتصروا على ايراد المعنى في نقل الخبر وحسب وإنما وظفوه بحسب ما أملت عليهم الحوادث والظروف، ومن ذلك توظيفه في الجانب الغزلي والاجتماعي والسياسي مثلا، ومن ذلك:

أ - الجانب الغزلي:

حيث يقع بين التصريح أو التلميح أحيانا، وبين ود المحبوب وصدوده وبين الوصال أو الهجر فيكون الخبر أما حقيقة أو سرابا.

يقول أبو سعيد المغربي:

وخريدَةٍ ما إن رأيتُ مثالَها *** حيّت من الألحاظِ بالإيماء
فسألتُها سمعَ الشكاةِ فأفعمَت *** أن الرقيب جُهَينَةُ الأنباء
وتبعتُها وسألت منها قبلَةً *** في خلوَةٍ من أعينِ الرقباءِ
فثَنَت عليّ قوامَها بتعانُقٍ *** أحيا فؤاداً مات بالبرحاء
ووجدتُها لمّا ملَكتُ عنانَها *** عذراء مثل الدرّة العذراء
جاءت إليّ كوردةٍ حمراء *** فترَكتُها كعرارةٍ صفراء
وسَلَبتها ما احمرّ منها خجلةً *** فجرى مذابا منجحاً لرجائي

ففي هذا القالب الغزلي الجميل عرض بالرقباء والواشين فشبههم بجهينة في نقل الخبر، ”ان الرقيب جهينة الأنباء“.

ومن ذلك أيضا ما أورده الشيخ علي الشيخ جعفر كاشف الغطاء حيث يقول:

إذا ما جاء يسحب برديته *** وفي أعطافه هيف ولين
بوجه رق ماء الحسن فيه *** فراق الخد منه والجبين
وألحاظ مواض كالمواضي *** قلوب العاشقين لها جفون
سقطت على جهينته فسله *** فعند جهينة الخبر اليقين

فذلك الناعم الترف رقيق الخد حسن القد عنده خبر العاشقين وأحوالهم ومعاناتهم التي لا تنتهي، كأخبار جهينة.

ومن ذلك أيضا ما أورده السيد جعفر الحلي حيث بقول:

أَفدي الَّذين غَدوا ولي بظعونهم *** مَهضومة الكشحين وَهيَ رداح
أَعطافها كَسلى وَهنَّ نَواعم *** وَعُيونَها مَرضى وَهُنَ صحاح
خرس خَلا خلها إِذا خطرت بِها *** لَكن ألسنة الوِشاح فصاح
إن أخبرت بِالصد فهيَ جهينة *** أَو واعدت بِالوَصل فَهِيَ سجاح

فعبر عن فاتنته بأنها في الصد والهجر أصدق من جهينة لا تخطئ ولا تكترث، وفي الوصل واللقاء فهي أكذب من سجاح، تسقيك السراب فتزيدك ظمأ، فيظل معلقا بين نار الصد وكذب الوصل.

ب - الجانب الاجتماعي:

ويشير في طياته بما يمر على الناس من ظروف وحوادث تكون أحيانا فاكهة للتندر ممزوجا بالسخرية الهادفة في إشارة لما تصل له الأحوال أحيانا.

يقول محمد توفيق العسيري:

أُفٍّ لِمَن يَدعونَهُم خُبَراءَنا *** سَلني وَلا تَسأَل جُهَينَةَ عَنهُمُ
فَهُم الكَواسِرُ وَالضَواري وَثبَةً *** إِلّا الأَقَلُّ ذَوي الضَمائِرِ مِنهُمُ
قدم لَهُ غير الدَراهِم يَحتَدِم *** إِنَّ السَفيهَ لِغَيظِهِ لا يكظِمُ
مَن كانَ لَحمُ الأَبرِياءِ طَعامَهُ *** ماذا يَرُدُّ مِنَ الطَعامِ وَيَهضِمُ

فهو يعرّض وينال ممن يدعونهم بالخبراء والمقدمين على غيرهم في الرأي والقول وهم لا شيء لديهم غير أنهم يقتاتون على لحم الأبرياء ويصادرون جهدهم ويسلبونهم تعبهم، فيقول سلني عنهم فأنا أصدق معرفة بهم من جهينة.

ويقول الشاعر اللواح:

أَيا قاطع الحبل الذي إن قطعته *** قطعت متينا وهو أصل حبالكا
تبصر أراك اللَه رأي جهينة *** لتعلم في عقباك تدبير حالكا
ولا تسمع الواشين فيما تقولوا *** على من تعاطى سامعاً لمقالكا
بعقلك قسني لا بقول حواسدي *** ولا تأمر اليمنى بقطع شمالكا

حث على التريث وعدم التعجل وتجنب قول الوشاة وسعايتهم فليس يأتي منها إلا القطيعة والمجافاة وبالتالي تصدع العلاقات وتلاشي الثقة، فكن كرأي جهينة فلا تعجل ولا تقطع إلا بالخبر اليقين.

ويقول ابن جبير الشاطبي:

أما في الدّهر معتَبر *** ففيه الصفو والكدر
فسلني عن تقلبه *** فعند جُهينة الخبر
صحبناه إِلى أَجلٍ *** نُراقبه وَنحتَذِرُ
فيا عجَبا لمرتحلٍ *** ولا يدري متى السفر

وعظ وارشاد وتحكيم للعقل وزجر للنفس عن اتباع الدنيا ففيها تقلبات بين صفو وكدر فهل في ذلك من عبرة لمعتبر فسلوني فإني جهينة الخبر، الذي لا يكذبكم فهذه الناس بين باق ومرتحل وبين غني ومفتقر، لا يقر بهم قرار ففي كل يوم تغير في الحال.

وختاما هل تصدق جهينة في أخبارها وإخبارها، وهل حتما رأيها قطعي، وهل عندها الحكم الفصل، ربما اتفق الجميع على ذلك إلا أنا المعري كعادته أوجد له رأيا آخر ووجهة نظر مغايرة، فليس دائما عند جهينة الخبر اليقين!!.

طَلَبتُ يَقيناً مِنْ جُهَيْنَةَ عنهُمُ *** ولن تخبريني يا جُهينَ سوَى الظّنِّ
فإنْ تَعْهَديني لا أزالُ مُسائِلاً *** فإنّيَ لم أُعْطَ الصّحيحَ فأستَغني