آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 4:37 ص

تقهقر النموذج الأمريكي

محمد الحرز * صحيفة اليوم

الطائرة العسكرية الأمريكية الضخمة، وهي على مدرج مطار كابل مستعدة للإقلاع والحشود من الأفغان تركض حولها، والبعض منها يحاول التعلق بجناح الطائرة حتى بعد الإقلاع، منظر ترصده الكاميرات، وكأننا أمام مشهد تمثيلي متقن لا ترى له مثيلا سوى في أفلام هوليودية. تماما كما رأينا المشهد ذاته قد تكرر عام 75م لحظة إجلاء القوات الأمريكية من سايغون في فيتنام. الجامع بين المشهدين هو تجربة فشل الاحتلال الأمريكي في كلا البلدين: فيتنام ثم أفغانستان.

يتساءل الكثير من الباحثين: لماذا نجحت تجربة أمريكا في اليابان وألمانيا وفشلت في هذين البلدين؟

الإجابة في ظني تتعلق بالمسألة الثقافية التي يختص بها كل بلد، إضافة إلى الظروف الاقتصادية والسياسية التي واكبت أحداث كل فترة من الفترات، وهذا يحتاج إلى تفصيل ليس هنا محله، فالمهم قبل الحديث عن فشل أو نجاح التجربة سياسيا، ينبغي التأكيد على ما هو واضح بالأساس، أن الغرب وعلى رأسه أمريكا لم يفقدوا مصداقيتهم أمام شعوب العالم حول ادعائهم الزائف حول قيمهم المقدسة عن حقوق الإنسان والديمقراطية والمساواة والعدالة، بل أصبحوا أضحوكة ومحل تندر بسبب ما حاولوا فرضه من قيمهم «التنويرية» وانتهوا إلى الفشل، وهاهم الأمريكان لا يريدون سوى العودة إلى وطنهم بقيمهم التي بشروا بها، والتخلص من هذه الورطة الكبيرة، فبعد احتلال دام عشرين سنة، وخسائر طائلة من الأموال وتدريب جيوش نظامية، عادت طالبان، وفي ظرف أسبوع سيطرت على كابل وكأن شيئا لم يكن.

وفي مثل هذه الأزمات ليس غريبا أن ترى الدول الغربية لا تهتم سوى بترحيل رعاياها ودبلوماسييها تاركة الأفغان يصارعون مصيرهم خصوصا الذين تعاملوا معهم، وكانوا في خدمتهم أمام حركة لا يرون فيها سوى حركة ظلامية متجذرة في المجتمع الأفغاني ومناقضة لقيمهم وبالتالي عليهم أن يتعلموا الدرس الفيتنامي وينسحبوا. لكنهم لم يقدموا الدرس الأخلاقي الذي يتبجحون به صباحا ومساء بحيث لم نجدهم يقدمون لهؤلاء المساكين الذين تعاونوا معهم سوى الوعود والأحلام البعيدة مثلما هو ديدنهم مع بقية الشعوب، فهم يستخدمونهم مثل المحارم الورقية ما إن يستعملوها حتى يرموها في سلة المهملات.

إن العواقب والآثار المترتبة على الانسحاب الأمريكي من أفغانستان كبرى مؤشراته هو انسحاب أمريكا من العالم وتقهقر نموذجها العالمي.

يكفي أن نشير ضمن هذا الاتجاه فقدان بوصلة ترسيخ مشروع الديمقراطية كما كان الأمريكان يريدون بعد احتلال دام عشرين عاما في أفغانستان. لكنهم اكتفوا بالقول إنهم نجحوا في القضاء على الإرهاب ومنابعه كحجة لا تصمد أمام تحولات الواقع، وهو أمر مشكوك فيه بالطبع مع وصول طالبان للسلطة، فالاحتمالات كلها واردة، من عودة القاعدة مجددا أو أن تصبح كابل موطن تجمع للإرهابيين. ناهيك عن هشاشة الديمقراطية التي صنعتها بالعراق القائمة على أساس المحاصصة الطائفية، ولا أظن في السنوات القادمة سيكون الانسحاب الأمريكي من العراق - كما تم الاتفاق عليه مع الكاظمي في زيارته الأخيرة إلى واشنطن - بأحسن حال من الانسحاب من أفغانستان، ستكون الميليشيات المتغلغلة في السلطة والحكومة على أتم الاستعداد للسيطرة على ما تبقى من دولة العراق.

لذلك هل يكفي القول إن فساد الطبقة الحاكمة هو من أفشل المشروع الديمقراطي في هذين البلدين كما يدعي المسؤولون الأمريكيون فقط، أم أن الاستراتيجية الأمريكية تتضمن بعدا ساذجا في فهم طبيعة الشعوب ومن ثم التعامل معها، فلا يمكن بمجرد احتلال بلد باستطاعتك أن تهديه الديمقراطية في غضون سنة أو سنتين، وهذه هي السذاجة بعينها.