آخر تحديث: 18 / 4 / 2024م - 11:13 ص

نحو توطين عربي لمفهوم الإصلاح

يوسف مكي * صحيفة الخليج الإماراتية

منذ نهاية النصف الأول من القرن الماضي اتجهت النخب العربية، يردفها في ذلك حشد عريض وواسع من الجمهور، نحو رفع راية الاستقلال الوطني من الاستعمار التقليدي الغربي الجاثم آنذاك على معظم أجزاء الوطن العربي. وقد تزامن شعار المطالبة بالاستقلال مع جملة شعارات أخرى، حملت بعضها الدعوة إلى الوحدة العربية حينا والإسلامية أو الأممية في أحيان أخرى، كما شملت مضامين أخرى ذات علاقة بالمساواة والحقوق السياسية والعدل الاجتماعي والتوزيع العادل للثروة.

وفي الستينات، وبشكل خاص بعد نكسة الخامس من يونيو/ حزيران 1967م، سادت حقبة جلد الذات، حيث بدأ التشكيك جملة وتفصيلاً في مسيرة العرب القومية، التي بدأت طلائعها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وحملت مشاريع النهضة مسؤولية الهزيمة.

ومنذ السقوط الدرامي للاتحاد السوفييتي في بداية التسعينات، طفحت شعارات جديدة وأعيد بعث أخرى، كان تقادم الزمن عليها. ومع بداية الثمانينات من القرن الماضي، برزت شعارات العولمة والتجارة الحرة وثورة المعلومات ونهاية التاريخ.

الملاحظ أن الأمة، منذ بدأت مرحلة الاستقلال، لم تتمكن من وضع الشعارات التي رفعتها قيد التنفيذ. ذلك لا يعني أن تلك الشعارات لم تعبر عن نبض المواطن العربي وآماله وتطلعاته، بل على العكس من ذلك، فقد كان الناس يخرجون زرافات إلى الشارع يدعمون مطلب الاستقلال، ويلتفون حول شعارات الحرية والوحدة والعدل ومطالب التنمية.

المشكلة كانت بالأساس في ضعف التشكيلات الاجتماعية التي جاءت تلك الشعارات والأهداف معبرة عن مصالحها، وعدم قدرتها على لعب دور أساسي وجوهري في تحقيقها. ومن جهة أخرى، كانت القوى السياسية العربية، تتبني تلك الأهداف لكنها بممارساتها، تجردها من مضامينها، بحيث غدت شاحبة ومنفرة، وأصبحت لا تعني بالنسبة للجمهور سوى مراكمة التخلف والانقطاع الثقافي ومساندة الاستبداد.

وحتى في البلدان العربية القليلة التي اتخذت أنظمتها منحى ليبرالياً، جرى تزييف الدساتير، واختطفت مؤسسات المجتمع المدني، وجردت مبادئ المشاركة السياسية والتعددية من أساسياتها، وفي حالات كثيرة اختطفت المكاسب والمنجزات التي تحققت للمواطنين..

إن بلدان المنطقة تتجه الآن، بفعل ظروف موضوعية، نحو إعادة صياغة هياكلها السياسية. وفي هذا الإطار، نشهد تطورات ملحوظة، في عدد من الأقطار العربية، باتجاه بناء الدولة العربية على أسس عصرية، تضمن تحقيق المشاركة في صنع القرار. لقد صدرت مواثيق عمل وطنية وسُنّت تشريعات وجرت انتخابات نيابية في مجموعة من الأقطار. لكن المعضلة في هذه التجارب الجديدة، هي البون الشاسع بين الطموح ومستوى التطبيق.

كانت الآمال كبيرة، في أن يتم انتقال البلدان العربية، حتى ولو بالتدرج، إلى نظام عصري يؤمن بالإنسان وبحقه في المشاركة في تقرير مصيره واختيار الطريق الأفضل لتحقيق نمائه وتطوره. وجاءت المواثيق الوطنية، وفرح الشعب بها واقترع بالإيجاب عليها. عاش الشعب مهرجان فرح، وحمل قادته على أكتافه. واندفعت مختلف الأطياف السياسية والاجتماعية، لجني المكاسب وبدأت تقصي بعضها بعضاً محاولة أن تستفرد بالحصة كلها، أو على الأقل بالحصة الأكبر من المكتسبات، دون وعي منها بأن الإقصاء يجر إلى إقصاء آخر في متتاليات لا نهاية لها، وأن الجميع سيكون خاسراً من انتهاج تلك السياسة.

وفي غمرة الصراع بين مختلف عناصر النسيج الاجتماعي، تحرف النصوص والمواثيق، ويضاف عليها ملحقات جديدة تجردها من مضامينها.. ورويداً رويداً يكتشف للناس أن ما حلموا به كثيراً لم يكن غير وهم وسراب. فقد تضاعفت مظاهر الفساد في عدد من الأقطار العربية، وازدادت أعداد الجموع من العاطلين، وهتكت الحريات بعد أن أُنشئت مؤسسات جديدة، قنّنت ما يصدر من كتابات وأعمال إبداعية وثقافية وتقرير مدى مواءمتها للمرحلة الجديدة.

وهكذا تكشّف للجميع أن تجديد الهياكل السياسية الذي جرى، بالعقود الأخيرة، في بعض الأقطار العربية، لم يجر توطينه، وتم فرضه من الخارج، بما يعني ارتباطه بحاجات ومتطلبات مصدّريه، ولذلك فإن مصيره الأفول عندما لا تكون هناك حاجة له من الذين فرضوه.

إن الحفاظ على زخم تحول الأقطار العربية باتجاه الإصلاح السياسي، يتطلب الاعتراف بوجود مصلحة عامة فيه، ومشاركة مختلف النخب والأطياف السياسية والاجتماعية، بكل مكوناتها في التحول، دون إقصاء لأحد. فالوطن ساحة كبيرة والمهمات المطلوبة من أجل عملية التنمية والتطوير هي بحكم جسامتها وتعدد مجالاتها بنبغي أن تستوعب الجميع.