آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 10:36 م

الجَهلُ.. قِنَاعٌ زائفٌ - حدث وحديث 4

عبد الله أمان

عَادة مَا تتأَرجح كفتا الميزان بعد بُلوغ كمال ثباتهما الشَّاخص المَاثل، بحُضور شخص ”الجاهل الغافل“ عن جَادة وضُوح وصُدوح مَاهِية وأَصل حَقيقة أمرٍ ما، العارض المُستتر، وما عليه مِن كامل ”بَيان وتِبيان“. ولا أقصد، في نَضدِ سُطور خاطرتي المتواضعة، بمُفرَدَةِ ”الجاهل“ الواردة، المتكررة لاحقًا، بِمَن ارتدى لاهيًا، بلَبُوس الجهل المُسيطر المُطبق، قالبًا وقالبًا؛ وضمه رِباط الأُمِية بين حَنان قَوادِم دِفء جَناحيه الحاضنين … ولكن هو شَطر الجهل الجُزئي المُقنَّع، القَابع في رَدهة جُعبة زاوية خَفية، أَو جاثم في زُقاق جُزئية مِن عِلم أَوثقافة، في حُضور غفلة سَاحبة، أَو ظُهور وصُدور سَقطة مَعلومَاتية عَاثِرة غائِرة، وعادة ما تكمنا، تِلكُما الهُوَّتَين، مَستورتين، أَو مَغمورتين، لم تَنلهما مَجَاس مَعرفة مُبصِرة مُستبصِّرة؛ ولم يَطلهما أَي تصورٍ فِكري ناصع واضح… وهنا ينزوي الفرد - الجاهل الغافل بغفلته اللاَّهية؛ وينأَى بجانب طَرف حَاله النكد، بكسل - حَاضر ظَاهر - تحت طائلة سُوء الظن؛ ويَبوء وَاهنًا مُستسلمًا، بأَزيز وسوَسَة الشيطان؛ ويُساق خَاضعًا مَخزِيًّا، بزُخرُف القول؛ ويُِمنى مِرارًا، بغُرور زَهو النفس؛ ويُجَاهِر الآخرين تَكرارًا، بالكبر والخُيلاء، خاصة عندما يدرك ”الجاهل الغافل“ في دَاخِلة قَرارَة نفسه، أَنَّه يَمتلك شيئًا مُميزًا مِن حُطام الدنيا الفانية، لا يمتلكه الآخرون مِن حَوله… وقد يكون الفرد نفسُه عالمُا مُتَبَحِّرًا في علمٍ أَو فنٍ؛ ويزهو بحمل وِسام شهادة فَلسفية عُليا في مَجال تخصصه العلمي، في فرع معاصر قائم، مِن فروع العلم، وصُنوف المعرفة؛ وتراه بعَفَوية صِرف، يجهل الكثير والمثير في أَبسطٍ وأَقربٍ جُزئيات وخَبايا مَيدان علم أَو فن مُجاور آخر؛ وربما يكون أَساس المعلومة الغائبة، ذاتها - عن عطاء حاضر ذِهنه - جَاهزةً مَحفوظةً، مَن لُب أَصل مَصدرِها الصحيح، في جَيب حَقيبة الثقافة العامة لفرد آخر حاضر، مِن عَامة سَواد الناس!

هذا، ولا تَستغرِب أَبدًا - عزيزي القارئ - إيحاءات هذه المُفارقة المعرفية القَائمة المُثيرة، عندما تدرك وترى، بأُم عَينيك، إِحدى كفتي الميزان القريبة الدانية، فارغة مُعلَّقة صَوب ناحية الأُفق، بحضرة سُخونة أَنفاس ذلك الفرد - المتخصص في مَجاله العلمي الأَكاديمي - حِينما يتمتم، بتلفظ وتحفظ، مُتواضعين، عن أَمر ما؛ لِينُمَّ عن إِقلاله وإِفلاسه المعرفي الظاهر؛ وربَّما يُفاجؤك جَهرًا وعَلانية - وعلى حِين غُرَّة - برتلٍ مُتقطِّعٍ ثَقيل مِن طُول سِلسِلة حُبلى مِن أَبسط وأَدنى

و?َقرب التساؤلات السطحية البِكر؛ وغالبًا مَا يدلي، أَو يضمر تباعٍا، بمعلومة خَاطئة في طيٍ مُغلَّفٍ في جَوف غِمد مُحتواها؛ أَو جُزئية مغلوطة في أَصل رِقاع مَنبعها، جُملة وتَفصيلًا؛ مُتناسيًا ثُقله ومَوقعه الفلسفي البارز في رِقاع سِجِّل تخصصه العلمي… ليخلع زيف غطاء نسيج قناعه الفلسفي الشاخص مَرةً؛ ويدسُّه بفارغ غفلةٍ جانبًا، تارةً أُخرى؛ ويُحكِم إِغلاقه جيدًا «بالضَبَّة، والمفتاح»... ويَلُوح لي الآن في أُفق حَافظتي المتواضعة، مَوقفان إِثنان مُعاشان، أَولهما: مَوقف مُحرج مُربك، حَدث مَعي أَصالة، في الثلث الأَخير مِن عَقد السبعينيات، مِن القرن الميلادي المُنصرم، عندما كُنت مُبتعثًا للدراسة إِلى الولايات المتحدة الأَمريكية، في إِحدى الجامعات، لصالح وزارة المعارف الجليلة، آنذاك، فقد التقيت مُصادفة، بمسؤول إداري، بمكتبه، بالحرم الجامعي، لأَول مَرةٍ، وعَرفت أنَّه يحمل درجة الدكتوراه في مَجال تَخصصه، وأُستاذًا مُحاضرًا… وفي بداية اللقاء، قدَّمت له بطاقتي الشخصية، وقد إَسترعى انتباهَه ”اسم بلدي“، وإِذا به ”يَنجال ويَنهال“ عليَّ بوابلٍ مُنهمر مِن دَفَق الأَسئلة المُتلاحِقة: عن مَوقعها، ومَساحتها، ومَعيشة أَهلها… فأَجبته بكل ثِقَة وتُؤْدَة على جُملة أَسئلته المِتراشقة الخَاطفة… عِندها، وبعد أَوبتي إِلى مَخدع الشقة السكنية، وقبل أَن أَخلد إِلى النوم، اقتحم طيف وَافد مُداهم صَهو ناصية مُخيلتي، مِن جديد، مُستعرضًا كامل تفاصِيل اللقطات الحية بدفتي خطف شَريط ذلك اللقاء الملون، المُعاد بثه بتمام كامل أَجزائه المتناقضة ”السيناريو“ وجُل فُيُوء ظِلالِه المتشابكة، وجَميع صُورِه الضبابية؛ خَاصة وأنا قد حَططت أَصَالة، بوطأة قَدمي الشاطِحة حَثيثًا، في عُقر أحضان أَمريكا، التي عَرفت، وسَمعت عنها الكثير والمثير مِن دَرس حِصة الجغرافيا، في المرحلة المتوسطة؛ ومِن مْختلف قنوات مُسلسلات التلفاز المْتنوعة، وحِزم الأَفلام الوثائقية... وكنت أَُقرأ وأُتابع أحدث وأَحدات مَواكب النهضة الشاملة، التى يعيشها شعب ذلك البلد المتحضِّر. هذا، ولم أَهدأ عن مُعاودة النظر بامتعاض واستياء؛ لاسترجاع مُشاهِد ذلك الموقف ”الصادم“ ثانية، في مُستهل بَاكُورة غَمرة طيف أَحلامي الليلية؛ وأُتبع استعراض أَجزاء طيف ذلك المشهد المتناقض نفسه، وِردًا آخَرًا في فَسَاحةٍ مِن مُعترك صراع أَحلام يقظتي النهارية؛ وأَهِيم بعيدًا شاطِحًا مُحَلقًا بفكري هُنيهة؛ لعلي أَلوي على تفسير مُقنِع، يخفف مِن شَدِّ أَثر الصدمة المُباغِتة؛ أَو يُبدد بعضًا مِن تسلل رِزم حُشُود سَلة الأَوهَام المستحوذِة الداجِنة، في أَوج سَاعة زَحمة ورَحمة أَحلام اليقظة النهارية المتنامية؛ وفي الوقت نفسه، أَعترف بتقزم تام مَشهود، وأُسَلِّم بتصاغر كامل مَورود، أَمام حَقيقة ثَبات الوَزن التحصيلي، ورَجَاحة الثُقل النوعي، لرقاع دِيباجة الشهادة العلمية الفلسفية التي يحملها مُحدِّثي!… والخُلاصة، أََننا الإِثنان معًا، بعد لقاءات لاحقة مُتتالية، ربطتنا عَلاقة وَثيقة، وصَداقة حَميمة؛ فقد تبادلنا الهدايا؛ علاوة على ذلك، فقد غنِمتُ شَخصيًا، بمُساعدات وخَدمات جَمَّة، لم أَكن أَتوقعها مِن كريم كف شخصٍ إِداري مسؤول، بذلك الشكل والمنحى، مِن كفاءة البذل السخي، ونزاهة أَريحية التفاني المتواضع!

هذا، ولن أَكتفي بسرد مَوقفٍ يتيمٍ واحد، بل سَأُردِفه لِحَاقًا بآخر، قد حَدث لي مُؤخرًا، بعد أَنْ قَرَرت استئناف مَسيرة العَودة الموعودة، بطوع أَدراجي النشطة، إِلى عُقر أَحضان الجامعة نفسِها، لإِكمال مِشوار الدراسة والتخصص، في بداية عَقد الثمانينيات مِن القرن الميلادي الماضي. وبتوجيه مُؤشر بُوصلة التحديد الزمني الدقيق وقتها، كُنت قد سجَّلت ”كورسًا“ دراسيًا جديدًا، كمُتطلبٍ أَساس في سلة التخصص، عن ”أُصول وفنيات الكتابة الأَدبية“ عند اُستاذة، تبدو عليها أَثر سِيماء ورسم رِقة الأَناقة الظاهرة؛ وتنالها مَسحة لمسات اللياقة، وطلعة الاهتمام البهي الملحوظ بحُسن مَظهرها الأَنيق؛ وقد فارقت الأَربعين مِن سِني عُمرها؛ وتكسُوها، بنقاء قائم فاضح، سَحنَة الملامِح الشرقية؛ وكان يمتاز جُل وقت درسِها المثير الجاذب، بأَجواء شَتََى مِن المناقشات؛ وإِبداء وطَرح مُختلف الآراء المتباينة؛ وقَدح وِقفات العصف الذهني النشطة؛ وهناك مِجَس هُبوب جَذب مُتسارع نوعي خاص، يُبدي رَسمًا تصاعديًا تفاعليًا تلقائيًا، بالإِحساس المريح بقِصَر حِصتي اللقاء الأُسبوعي! ومَمَّا يميز خُصوصية سَير نظام هذا الكورس الدراسي أَيضًا، أَنَّه على الطالب كتابة وتقديم واجب مَنزلي تطبيقي، في غُرة الأُسبوع التالي، عَقِب تقديم، وتمرير، وتفسير، وتحليل قائمة سَلةٍ حُبلى مِن قوائم حِزم أَساسيات، وقواعد وأَساليب الكتابة الأدبية الإِبداعية، ورِزم الفنيات المستهدفة ومُناقشتها، استعراضًا وشَرحًا مُسَبَّقًا؛ ثم وَضع الواجب الكتابي فوق سَطح مكتب الأُستاذة، بعد المحاضرة الشائقة... والجدير بالذكر، إِني كنت تحت عَدسة مِجهر مُلاحقة نَظر وشَرَر طائلة النظرات الحادة الطويلة للأُستاذة، أَثناء غَمرة الاسترسال في حَديثي؛ وتبيان طيف مَرئياتي؛ ونشر ونثر سَائر تغذياتي الصفية الراجعة، أُثناء أَصعب مَحطات العصف الذهني المُتكررة… وكنت، في بداية الأَمر، أَشعر عَفَويًا، بتقارب وتشابه مُماثلين، مع الأُستاذة، في بعض الملامِح الجسمانية...

ومِن المُلاحظات التي أَسهمت في شدِّ انتباهي، أَنَّه في كل مَرة أُسَلِّم فيها ورقة الواجب التطبيقي الأُسبوعي، تطلب مني الأُستاذة الانتظار لهنيهةٍ، حتى يُسلِّم آخر طالب ورقته، ويخرج الجميع؛ لتُبادر بإِتمام ”صَرعة“ مُتسارعة مَلحوظة، بقراءة خاطفة سَريعة لنص وَرَقتي، ثم ترمقني في - مقام هيئة الحال - بنظرات تعلُوها الشك، وتكسُوها الرِّيبة؛ وتردفها بسؤال طويل مُحرِج: «مَن كتب لك هَذا؟» … لأُجيبها على الفور، بلسان طَلِق ذَلِق: «أَنا الذي كتبتها!» لتهزَّ قائم رأْسها الحائر، مِن جديد، بشديد استنكار، وبالغ استهجان… وأَتذكر جيدًا، أَنَّها، ذات مَرةٍ، استوقفتني في دائرة ”خَلوَةٍ صَفِيَّةٍ“ وسَألتني عن بطاقتي الشخصية، وبلدي، وطبيعة الحالة الاجتماعية، والأَوضاع المعيشية للناس هُناك؛ فأَجبتها بكل شَفافية ورِفق، واهتمام؛ وإِذا هي صَامِطة صَامِدة، لاتحرك سَاكنًا؛ ولا تزال غارقة في لُجة بحر شُكوكِها القديمة البالية. ولاحقًا، عندما شَعرت بوطأَة ضَائقة الحَرَج الضاغطة، أَحضرت لها، في مَوعد الدرس التالي، ”أُلبوم“ الصور الملونة لأَفراد أسرتي، ومنزلي، وقد زادها رِفد ذلك الإِهداء الصادق الناطق تَشكيكًا ونُكرانًا؛ وبقِيَت سَابِحة غَارِقة في أَعماق خِضم يمِّ شكوكها الدميمة… وقد عَرفت مَؤخرًا أَنَّها تحمل مَوقِفًا خَصِيمًا كامنًا مُعادِيًا، لجنس العَرَب، وأَساس عَقيدة المسلمين، يرقى إِلى حَدِّ الثُّمالة… وقد أَعمى بصر فِكرها المْشوَّش، ذَيَعان وهَيَجان ضَجِيج زيف الدعايات الغَوغائية؛ وسَرمدية كَفيف غفلتها الساحبة اللاهبة، أَثر تطاير وتناثر وتراشق شرر عَجِيج الحملات المتربصة المُغرِضَة، والمُناوئة لفِكر وسَمَاحة الإِسلام، وسِيرة ومَسِيرة عَامة المسلمين، آنذاك؛ وأَلجَمت وَجه بصيرتها - الأَكاديمية الشاخصة - أَغطية سَميكة؛ لا يَنفذ إِلى أَوج ناصِيتها شذر مِن أَثر رَذاذ الحقيقة، ولا يرقى إِلى حَدَبَة سَنام صَهوتها الجَموح بصيص مِن أدنى أَمَارَة شُعاع البصيرة… إلى أَن اقترب وحَان وقت الامتحان النهائي، وأَشارت الأُستاذة للطلاب والطالبات بالحُضور المبكِّر إِلى قاعة مُحددة، في وقت لاحِق؛ لأَداء الامتحان. هذا، وفي بَاكورة الساعة المحددة الموعودة لبدء جلسة الامتحان، قامت بتوزيع الأَوراق كالعادة، على الحَاضرين، وكان سُؤال الاختبار الكتابي... «اكتب في واحدٍ من المواضيع الثلاثة التالية» واخترت أَنا الكتابة الأَدبية في موضوع: «الناسُ.. كالأَشجار» وطلبت مِني مُسّبَّقًا بالجُلوس في الصف الأَول، أَمام مكتبها مُباشرة؛ لتجلس قُبالي، وتحتَسِي كوبًا كبيرًا مِن القهوة، ولم تنفك عَيناها المُتوقدتين تنضح بدفق مُلاحظتي؛ وتقدح بشرر مُراقبتي، وقد ”لَبِسَِت لِي جِلدَ النَّمِر“ وأَنا مُستغرق في ترتيب واصطياد، وسَك أَفكاري، بحضورٍ ذهني يقظ، غير آبه، أَو مُكترِث لما يجري مِن حَولي... وقبيل نهاية وَقت الامتحان الساخن، قام مَعظم الطلاب والطلبات بتسليم أَوراقهم، فقمت على مِنوالهم النشط تباعًا، بتسليم ورقة إِجابتي؛ فأَشارت إِليَّ بالانتظار قليلًا، رَيثما تتم قرأَتها، بشغفٍ مُنتظَرٍ، ورغبةٍ شَديدةٍ، لَطالما كانت تنتظرهما، بفارغ صبر؛ وبعدها، رَمَقتني بنظرات حَائرة مُتردِّدة، أَحسَسْتُ في حَراك نَسِيج لَفيف طياتها المُسترخِية توًا، والمستيقظة طوعا، بأَثرِ بزوغ بصيص تسلل نورٍ نشطٍ، مُحَلَّى بُرُوزًا ببعض انطلاقة نشوة لِحاظ دفق الرَّأفة؛ ومُزيَّن بتسرَُبِ ارتشاح رَسْم بارِقة الرِّقة، بمَعِية استدارة هَالة أَحدَاقها الحادة؛ ثم هَزَّت برأْسها استحسانًا وقُبولًا، لأَول مَرة؛ ثم صَرَّحَت بعابر بَوحٍ وَاضِح؛ وأَبدت بفائق بَيان صَادِح؛ وأَسدت بنقاء إِبانة جَلية، وأَريحيةٍ ذاتيةٍ مَحضَة، في عبارة وَاحدة كَاملة: «لقد أَذْهَلتني الآن، وإِني أَمَام تَصديق كتاباتك السابقة، وقُبولها!» ثم انصرفتُ مُستبشرًا مُبتهجًا جَذِلًا، وأَنا أَهنأُ بكِفلين فَائقين مِن فَورة نَشوة الانتصار القاهرة الظافرة، أَولهما: لم أُقابل وأُقايض شِدَّة سَيل مَواقف الأُستاذة ”العُنصرية السلبية“ طِوال الكورس الدراسي بمِثلها، أَو بجُزءٍ مِنها، مِن صَميم لُباب مُنطلق مَبدأ عَقلاني صَريح ثَابت؛ حيت إِني ضيف ”سَبيلٍ عَابرٍ“ في بَلدها؛ عَلاوة على تلك المَزِية البهية، أَنَّها تَحمِل، على عَاتَقها، أَمانة رِسالة تربوية عُليا؛ وأَنا - شَخصيًا - مُطَّلع على مسَيرة سَمَاحة، ومَكَانة، وشَرَف الرسالة التربوية ذاتها؛ ومُجرب عَارف بأَكمل، وأَسمى، وأنمى مَرامِيها النبِيلة؛ ومُقدِّر لِجُل مَقاصدِها الإِنسانية السامُية، عندما عَمِلت بودٍ وتفانٍ، مُعلمًا مُتواضعًا في بلدي، لأَكثرَ مِن عَقد خَلا، مِن الزمن... وثاني رَكيزة مِن ركائز دَفق قمة النشوة الغامرة الجَذلى: إِنِّي لم أُقدِّم مَقعد أَرِيكة ناعمة مُترفة لضائقة القلق النفسي؛ ولم أَستضف نزق وأرق الاضطراب اللحظيين، بأَن يتسللا كِلاهما خِفيةً، إِلى ناصية نَشاطي الفكري؛ ويُزعزعا بفَاضح حَماقة؛ ويُضعِفَا بسَافر طَيش، عَقد وَثَاق الثقة النابضة في مَيدان مِشوار مَسيرة تحصيلي الدراسي، جُملة وتفصيلًا!

هذا، وعندما يتكشف لُبُّ الأُمُور المُندسِّة المُستَتِرة عَلنًا، عن جَوهر حَقيقتها الصارِخة الدامِغة تِباعًا، أَمام صَفاء ونَقاء سُطوع ”حَدَقة“ بَصيرة النَّاظر المُتأَمل، في بارقة زَهو نهار يوم بارد، دُون تكلف إِستضافة نَسقِ صفٍ مِن نَضَدِ ”رُتوش“ صِناعية؛ أَو استدعاء نثرٍ رَذاذ مِن لَمسات مِن أثر مَسحة سَحبة ريشة ”مِكياج“ هُلامِية، تَجُول وتَحُول دون أَدنى أَحاسيس تَوقير، أَو أقل وِقفات احترام؛ أَو تعترض - تلك المشاعر المُنهزمة - دون أَصغر صَرخة التزام؛ بُغية عَرقَلة رَسميَّات بروتوكول المُثول الثابت المُنتصب، أَمام ظاهر وَجه الحقيقة الدامِغَة؛ فإِننا - بفائق وّرائق - فِكرنا الحصيف، نَشطح ونمرح بغامِر عَزم؛ ونَنفر بوافِر حَزمٍ... ناشطين رافعين قُبَّعات الاحترام الذاتي؛ ومُعَلِّينَ مُعلِنِينَ، بحثيث عزيمة، وصادق اجتهاد، رفع وتَعلِية قوائم وسِوارِ رايات وأَعلام القبول الأَريحي الماجدة المُمَجَّدة؛ ومُتَتَبعين سَائرين، بهَدى ورَشَاد، إِلى شَفا مَشارف ومَنانع حَكيمة؛ وصَافِّين - بوَعي وحِلم - عند جَنبات ضِفاف مَصَبِّات أَنهار أَناةِ ورَوِيةٍ، في طِول وعَرض أَكبر وأِعم ”كارنيفالات“ ومَواكب، وقَوافل أَوسِمة التسليم الطوعي؛ لتلبية بَارع نَفرة؛ وإِجابة ناعم وَثبة، ذاتيتين آنيتين؛ لإِسقاط، وإِحباط، وإِفشال، ونزع، أَعتى أَقنعة هَجَمات الجهل المُستنسخة الزائفة، واقتلاعها من أَصل جُذورها البِكر؛ وقد طَرحها، بمقت شَديد؛ وحَطَّها بشناءة مُقيتة؛ وأَزاحَها بغَضب جَم، مِرارًا وتكرارًا، مِن ذِي قَبل، زخم غُثاءِ نَازِلة السيل الجَارف القُحَاف، مِن أَعلَى عَلِي!