آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 1:31 ص

المثقف العلماني والمثقف المتدين

محمد الحرز * صحيفة اليوم

الصيغة الثنائية «المثقف العلماني إزاء المثقف المتدين» لم يكن لها وجود، لا على مستوى الصراع الاجتماعي أو الثقافي أو حتى السياسي عند الكثير من المجتمعات العربية في النصف الأول من القرن العشرين، فقد كانت الأحزاب اليسارية والقومية هي المسيطرة على المشهد الاجتماعي منه والسياسي.

لذلك كانت الفكرة السائدة في أوساط المجتمع في تلك الفترة أن العلماني والمتدين خطان متوازيان لا يلتقيان، فلا يمكن أن نطلق على المتدين أنه مثقف، ولا يمكن أن نطلق على المثقف أنه متدين، على اعتبار أن المتدين هو الملتزم بالطقوس والعقائد المتوارثة وهي في مركز اهتمامه الروحي والسلوكي، بينما العلماني عكسه تماما، فلا يضع مثل هذا الالتزام موضع المركز والاهتمام، ما يهمه بالمحصلة هي القيم، التي أنتجها الإنسان المعاصر وأَثْرت معارفه ومعتقداته.

إن هذا التفريق الذي أضعه بين الاثنين، له علاقة بالفكرة السائدة في تلك الفترة، وإلا هناك تفرعات عديدة في مسار كل منهما على مستوى الاختلاف والتباين من جهة النظرة إلى الدين والسياسة والمجتمع والتاريخ.

لكن بلحاظ هذه الفكرة من جهة، وهذا التفريق كما أقترحه هنا من جهة أخرى سرت في الأوساط نفسها أفكار متولدة من هذه العلاقة، من قبيل المتدين يحمل فكرا ماضويا بينما العلماني يحمل فكر الثقافة المعاصرة، المتدين يعيش الماضي، أما العلماني فيعيش المستقبل.

ولا أريد هنا أناقش صحة هذه الأفكار من عدمها، أو مدى انطباقها على الواقع ولو جزئيا، فقد يطول المقام، ما يهمني منها هو أن أوضح التالي:

لقد جرى تكريس هذه الأفكار وتوظيفها في أوجه من وجوهها سياسيا، بحيث تكرست معها صورة المتدين الانعزالي المنسحب من العالم ومعارفه، وصورة العلماني المنفتح على العالم ومعارفه، وبالتالي تضخمت كلتا الصورتين في أذهان الناس، فأصبحت لكل صورة دلالتها الإيجابية والسلبية في نفس الوقت، حسب حدة الصراع وبطئه، فالمتدين يقرن بلقب المتخلف والجاهل مرة، ومرات أخرى بالأصولي والمنافح عن بيضة الإسلام، والعلماني يقرن بالمتنور والمنفتح مرة وبالمتغرب مرة أخرى.

وإذا كان هذا الصراع في أحد وجوهه فرضته الأحداث السياسية، فإن الواقع يقول لا صورة المتدين صحيحة كلية، ولا صورة العلماني أيضا صحيحة كلية، فقد أنتجت المؤسسات الدينية رجالا متدينين ومثقفين ثقافة عالية كالأزهر «مصطفى عبدالرازق» وكحوزة النجف «محمد باقر الصدر» وهناك بالمقابل علمانيون مؤدلجون سياسيا لا يملكون من المعرفة سوى ما يمس مصالحهم فقط. لكن لأسباب سياسية بالدرجة الأولى كما قلنا، وتاليا لأسباب أبستمولوجية معرفية كالانغلاق على الذات والاكتفاء بدرس علوم الماضي تكرست هذه الصورة الثنائية.

عموما هذه الصورة الثنائية لم تبق كما هي، لقد انكسر هذا الخط المتوازي مع تبدل الأحوال وتغير الأوضاع بصعود الإسلام السياسي كقوى مؤثرة سياسيا واجتماعيا من جهة، وتأثير أحداث المنطقة من احتلال العراق إلى الربيع العربي من جهة أخرى.

بحيث كان الشارع العربي هو المعبر عن هذا الانكسار، وهو الذي أعطانا صورة الرجل المتدين وغير المتدين، الشيخ والعلماني يسيران جنبا إلى جنب لغايات وأهداف مشتركة.

يبدو لي - بالنهاية - الأحداث الكبرى، التي تطال المجتمعات تملك القدرة على كسر إطار الصورة القديمة له، والبدء في تشكيل إطار آخر لصورة في طور التشكل وفق مسار الأحداث نفسها، فإذا كان الحدث يرتبط بمطالب فئوية أو مذهبية ضيقة، فإن صورة أصحابه تقابل بريبة وشك وسوء فهم كما حال مطالب الأقليات، بالعكس من الذين ترتبط صورتهم بأحداث بقضايا الدولة ومؤسساتها وقيمها، بحيث تكون الصورة أقوى أثرا في العلاقات الاجتماعية، وأكبر تأثيرا في إحلال صور جديدة بدل القديمة.