آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 6:02 م

من تراث الإمام المجتبى

ورد عن الإمام المجتبى : عليكم بالفكر فإنّه حياة قلب البصير ومفاتيح أبواب الحكمة» «بحار الأنوار ج 75 ص 115».

لابد من الإطلالة على معنى الفكر وآثاره لفهم تلك النتائج المذكورة في الحكمة الواردة عن الإمام المجتبى، فالفكر هو إعمال المدركات العقلية والانتقال بها نحو المجاهيل واكتشاف الحقائق والمفاهيم، فأعظم هبة إلهية للبشر هو العقل المفكر الذي يدرس ويتفحص البيئة من حوله، ومن ثم ينطلق نحو ربطها بالمعطيات حتى يتوصل إلى استنتاجات ومواضيع جديدة.

وقد يطلق الفكر على التدبر والقراءة المتأنية لما سبقنا وما حولنا وما عليه التخمينات من وقائع مستقبلية، ولقد ذم القرآن الكريم حالة الجمود العقلي والتمسك بالتراث وقيم الآباء بتقليد الأعمى، إذ أن إعمال الفكر يحرر الإنسان من شرنقة الجهل وضعف النظر في الأمور، وما آفة البشرية - والتي عمل على محاربتها ومعالجتها الأنبياء والصالحون - إلا التعامل مع القضايا بسطحية ولا مبالاة مع مسألة التوحيد والتحلي بمكارم الأخلاق، بل ويقابلها البعض بالتزمت والتمسك السلبي بالآراء، دون إعطاء نفسه فرصة المراجعة وتكوين القناعات وفق التفكير المنطقي الاستدلالي، وما ينمي العقل في مدركاته وطريقة تفكيره وصولا إلى النضج والوعي وإدراك الحقائق هو إعمال الطاقة الفكرية التأملية، وما نراه من عظمة بشرية تمثلت في تلك النخب الفكرية من مؤلفين ومخترعين ومنتجين هي آثار الاهتمام بالفكر الإنساني وتنظيم أساس المبدئيات والقناعات الاستدلالية.

كما أن القلب في إحيائه يعني تهذيب النفس وتحليها بالصفات الحميدة وتخليها عن النقائص والعيوب، مرده إلى التفكر في العواقب والنظر في الآثار المترتبة على أي فكرة أو خطوة يقدم عليها، فالإنسان المتكامل والمتسامي في رقي الأخلاق الكريمة يرى نفسه في تنميتها من خلال الالتزام السلوكي بها، بينما يرى في اتباع الأهواء والشهوات وتحصيلها بأي شكل واللهاث خلفها هو الضياع والانحطاط والسقوط، ولذا ينزه نفسه عن مقارفة الخطايا والاقتراب منها لئلا يتلوث بكوادرها.

ولقد عد الشارع المقدس التفكر أهم العبادات التي تثمر القرب من الله تعالى، وذلك أن أساس العبادة هو تعظيم الخالق ورؤيته في كل خطوة يخطوها بالنظر إلى أنها محط الرضا الإلهي أو لا تحظى به، والتأمل في الكون وما فيه يضع الإنسان على سكة تحمل المسئولية وتنفيذ الدور الوظيفي له في الحياة بكل تفاعل ونشاط، فالإنسان لم يخلق عبثا بل لعمارة الأرض ماديا ومعنويا والسعي الحثيث لتحصيل معنى الإنسانية.

والتفكر منهج حياتي يقوم به المرء خطواته وآراءه، ويحاول أن يصل إلى الحقائق والقناعات من خلال الربط والاستدلال والاستنتاج حتى يصل إلى نتائج منطقية، وهذه الحياة بكل عواملها ومتغيراتها الحدثية والزمنية تشكل مادة دسمة تستحق التأمل والنظر الواعي فيها، فنجد القرآن الكريم يقدم لنا أحداث الأمم الماضية وقصص الأنبياء لتكون موضع التمعن والتفكر الناضج فيها، ومن ثم استخلاص الدروس والعبر والنتائج التي تشكل ومضات في حياة الإنسان، فالفرعونية ليست وسما لشخص بل هي ظاهرة تشير إلى صفة الطغيان وتأليه الذات والتسلط على رقاب العباد والاستبداد، فكل من كان فيه خصلة من التكبر والاستعلاء على الآخرين وتقزيمهم فهو ينتمي للسلوكية الفرعونية، وكذا القارونية تشير إلى الاغترار بالمال واللهث خلفه وتحصيله من أي مصدر وكنز الثروات، وكل من سحره بريق الذهب واستهواه جمع المال واستبد به الحرص وشح النفس فهو قاروني الفكر والسلوك، وكذا الآفات والمخالفات الأخلاقية التي مارستها الأمم السابقة استجابة للشهوات المتفلتة وافتتانا بملذات الحياة الزائلة، إذ جعلتهم يصمون آذانهم عن صوت الحق والفضيلة الداعي لهم للاستقامة، ولا يجنب الإنسان السقوط في وحلها سوى الفكر الواعي، من خلال تصور هدر كرامته وإنسانيته في الدنيا بارتكاب الخطايا، والنظر في عواقب أفعاله المستوجبة للسخط الإلهي واستحقاقه العقوبة.

كما أن علاقاته الاجتماعية لا تتجه نحو الاستقرار والنجاح إلا من خلال طلال الفكر الواعي، والذي يدعوه إلى نسجها وفق قيم الاحترام والثقة والتعاون والاهتمام المتبادل، وكل المنغصات والأساليب المنفرة يحذره منها عقله الرشيد وينهاه عنها، وكل جوانب حياته الثقافية والاجتماعية والأخلاقية تتقوم بالفكر السديد، وفي الجانب النفسي يدعوه عقله عند مواجهة الابتلاءات والمصاعب والظروف الحياتية الضاغطة إلى ضبط النفس والتحلي بالصبر والأمل والاستفادة من تجارب الآخرين.

وعلى مستوى علاقته بربه يدعوه فكره إلى التيقظ ومحاسبة النفس وزجرها عن الخطايا، وإن ارتكب يوما سيئة هرع إلى التوبة وتجديد الوصال مع ربه.