آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 4:37 ص

نَجَح عصر الأنوار في الغرب وتعطل بالشرق

يوسف مكي * صحيفة الخليج الإماراتية

مرة أخرى: لماذا نجح عصر الأنوار في الغرب وتعطل في الشرق؟

في مطلع مايو/ أيار من هذا العام، وعلى هذه الصفحة تناولنا أسباب نجاح عصر الأنوار في الغرب، وتعطله في الشرق. والواقع أن المقال المشار إليه، ركز على التحولات التاريخية والعوامل التي أدت لبروز عصر الأنوار في القارة الأوربية، لكنه مر مروراً عابراً على أسباب تعطله في الشرق. لقد تم ربط ذلك العصر بالتطورات الفكرية التي شهدها الغرب، وبالاكتشافات الجغرافية وبزوغ الثورة الصناعية التي بدأت في بريطانيا.

وقد تعزز عصر الأنوار بقيام الدول القومية، واكتساح الصناعة الغربية للأسواق العالمية.

مناقشة الظروف التي أدت إلى بزوغ عصر الأنوار، هي مسألة جوهرية بالنسبة لنا نحن العرب؛ لأن اقتحام الغرب للتطور العلمي والصناعي، جاء من بوابة ذلك العصر. والتقدم العربي المنشود لن يكون حقيقياً ما لم يتكئ على دعامات أساسها صلابة المشروع النهضوي الذي يفترض فيه أن يكون بوابة تقدم هذه الأمة.

لم تتح الظروف الموضوعية للشرق، أن يلج مبكراً عصر الأنوار، لأسباب موضوعية أهمها افتقار الشرق للتجانس والوحدة، ورسوخ البنيات الاجتماعية القديمة. والشرق في هذا السياق، هو القارة الآسيوية، وجزء يسير من القارة السوداء. وتضم هذه المنطقة الشاسعة أكبر كتلة بشرية فوق هذا الكوكب، والشرق أيضاً هو المكان الذي انطلقت منه الأديان السماوية: اليهودية والمسيحية والإسلام. وهو أيضاً المكان الذي انبثقت منه الديانتان، الهندوسية والبوذية، والأولى هي الثالثة في العالم، بعد المسيحية والإسلام، من حيث عدد المؤمنين بها، وتليها البوذية.

إن ذلك يعني أن بيئة الشرق كانت مهيأة أكثر من غيرها من قارات الأرض لاستقبال الرسالات السماوية والديانتين الأخريتين. وقد بقيت هذه الديانات صامدة آلاف السنين، وربما يكون ثبات البنيات الاجتماعية القديمة من أسباب هذا الصمود.

بالنسبة للقارة الأوربية، والعالم الجديد، اعتنق أغلبية السكان الديانة المسيحية الوافدة من الشرق، لكن التحولات التاريخية وديناميكية الحركة، فرض قيام حركة إصلاح ديني تتماهى مع التطور الاجتماعي. وذلك ما لم يوجد نظير له في المجتمعات الشرقية. فالأديان في هذه المجتمعات قوية وراسخة، وهي موجودة في بيئتها الأصلية. يضاف إلى ذلك أن هذه المنطقة لم تشهد أي وجود لسلطة سياسية كنسية، كما حدث في الغرب. ولذلك لم تتوفر الظروف لقيام حركة إصلاح ديني على غرار ما حدث في الغرب.

اتساع مساحة القارة وتعدد اللغات والأديان والأمم بها، لم يتح لها فرصة تحقيق أي نوع من الوحدة، بخلاف الأمم الأوروبية التي كانت تنتمي في الأصل إلى لغة واحدة، تعددت لهجاتها، وتحولت تلك اللهجات إلى لغات معترف بها. بالمعنى المعاصر للأمة، المستند على وحدة اللغة، فإن جميع أمم الغرب تنتمي في الأصل لأمة واحدة، وقيام الدولة القومية، يأتي في سياق صحيح.

لقد بقي الإقطاع قوياً في الشرق، كما استمرت شبكة العلاقات الاجتماعية على ما هي عليه. وحين تمدد التوسع الغربي ليشمل معظم أجزاء القارة الآسيوية، كانت مبادئ عصر الأنوار هي مبادئ الآخر الذي هجم بقواته وأساطيله، ومارس الاضطهاد والنهب في عموم القارة. ولذلك من الطبيعي أن ينظر إلى مبادئه باعتبارها دخيلة، ومن تركة الاستعمار الجاثم على الصدور.

يضاف إلى ذلك أنه حين انطلق عصر الأنوار الأوروبي، لم تكن بعض أمم القارة الآسيوية تعيش حالة انكفاء؛ بل ظل بعضها في أوج عظمته وقوته، كما هو الحال مع السلطنة العثمانية التي كانت أثناء تلك الحقبة، تعيش قرنها العظيم، وتحتل أجزاء كبيرة من القارة الأوروبية. لم تعان السلطنة من أزمات تدفع بها للبحث عن مخارج لها، وتلجئها للالتحاق بعصر الأنوار الأوروبي.

وحين تبدلت الأمور مع منتصف القرن الماضي، التحقت القارة الآسيوية بالغرب، ولكن ليس من بوابة الفكر؛ بل من خلال السعي لمحاكات تطور الغرب في المجال الصناعي والعلمي. وتمكن البعض من الخروج من النفق، واختاروا طريقهم الخاص للنهوض والتطور. وبقي البعض الآخر يعاني الجوع والفقر وتبعات التخلف الذي تركه المحتل وراءه.

نحن العرب أيضاً وفي هذا المنعطف من التاريخ، علينا أن ننفتح على منجزات الفكر الإنساني دون خشية أو خوف، أو استنساخ أعمى لتجارب الآخرين. وليس من ضير في أن يكون لنا طريقنا الخاص للتطور والنهوض، شريطة ألا نكون أسرى للماضي، وألا يكون ذلك معوقاً لنا عن الالتحاق بالعصر الكوني الذي نحياه.