آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 10:36 م

ويزكيهم

السيد فاضل علوي آل درويش

قال تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ.. - آل عمران الآية 159.

تتحدث الآية الكريمة عن الحاجة الملحة والمهمة في ترسية العلاقات الاجتماعية وفق الإخاء والوئام والتفاهم والمحبة والسلام، والتي ترتكز على قلوب اتسمت بالرحمة والشفقة والعطف متجليا ذلك في المنطق اللين والتعامل الحسن، فويل للناس من القلوب القاسية المتحجرة التي لا تعتمد منطق الرقة والسهولة، فهناك وجوه ثلجية لا تعرف معنى الابتسامة والبشاشة والملقى الرحب والتحية اللطيفة، ولا تعرف معنى السماحة والبساطة في الحديث والتواضع في التعامل.

المقبولية بين الناس وصولا إلى الدخول إلى قلوبهم ونيل ودها لا يأتي من فراغ وخلو من قواعد التعامل، والتي نستقيها من الهدي القرآني والسيرة المعطاءة لأفضل الخلق محمد ﷺ، فالناس لهم حاجات تترتب بحسب أهميتها على نحو هرمي، وتقع في القمة الحاجة إلى احترام مشاعرهم وتجنب جرحها بكلمة قاسية أو تجاهل أو استهزاء، فهناك قائمة من التعاملات المؤدية إلى النفور منا ويجمعها عنوان الأذية لأحاسيس الغير، فالبعض يمتلك بلاهة في التعامل فينطق بالكلمة ويتصرف دون ملاحظة تأثيرها السلبي على الآخر.

وسعة الصدر والحلم خلق رفيع يسع هفوات الناس وأوجه تقصيرهم وزلاتهم، فنحن غير معصومين ونقع أحيانا تحت وطأة الألم والتعب والإخفاق والانفعال والانكسار الوجداني وغيرها فيهتز كياننا ونفقد توازننا الفكري والوجداني ونتصرف بما لا يرضي من يحبنا، ولا يسعفنا وينقذنا من التهور والعجلة والجهالة إلا ضبط أنفسنا وجوارحنا بأكبر قدر ممكن؛ لئلا نرتكب من الحماقة والخطأ في حق الغير ما نندم عليه كثيرا، كما أننا نتجنب الخصومات من خلال تقبل الاعتذار والتسامح.

من حولنا بحاجة إلى أصحاب القلوب البيضاء الذين يحملون مبدأ العطاء على مختلف المستويات المادية والمعنوية، فالعطاء لا يقتصر على المال فقط وإنما هو كل ما ينبع من قلب دفاق بالمحنة والحنان، فيهرع صاحبه إلى تقديم المساندة على شكل كلمة تبلسم الجراح والآلام، ومساندة ثقافية ومعرفية في تقديم المعلومة المفيدة والمنمية للمدركات العقلية، ومساندة اجتماعية في ساعة المحنة والمصيبة فيعمل على تخفيف همومهم وكدرهم، كما كانت هي سيرة الرسول الأعظم والذي وصفه رب العالمين بأن قلبه الرؤوف كان العامل الأهم في هداية الناس وإشراق قلوبهم بالتوحيد ومكارم الأخلاق، فسيرته ﷺ تجسيد للتعاليم الأخلاقية والتربوية والتوجيهات القرآنية، فقد كان ﷺ صاحب القلب الكبير والعزيمة والصبر الذي احتوى الناس بكل أحوالهم وصفاتهم الشخصية وتعاملهم، فما ضاق صدر الرسول الأكرم يوما بإساءة أحد بل هو الداعي والعامل بالصفح والعفو.

وكان الرسول الأكرم ﷺ صاحب القلب الودود الذي تمظهرت محبته على لسانه الناطق بالكلمات الحانية الرقيقة، كما أن تعامله امتاز بكل أريحية وتواضع وعطف على الصغير والكبير دون تمييز ضد أحد، وكان يجود بكل شيء يقع تحت يده من المال ليبذله على المعوزين والمحتاجين تخفيفا عليهم من أعباء مستلزمات الحياة الكريمة.

هذه السيرة النبوية المعطاءة التي تفيض وتجود على الناس معرفة وتهذيبا للنفوس، تعد إشراقة للنفوس في ميدان العطاء والعمل والتطبيق الأخلاقي على أرض الواقع، وما أحوجنا لتدارسها لنعيد على أساسها برامج حياتنا وسلوكياتنا، فالتدين الحقيقي ليس بمظاهر عبادية فقط تخلو من المضامين التربوية، بل هو نور يبرز على شكل التزام في الأقوال والتصرفات بالهدي النبوي، فعلاقاتنا الزوجية والأسرية والاجتماعية والوظيفية بحاجة إلى ترسيتها وفق النهج الأخلاقي المحمدي، فتصفو القلوب وتتعامل مع الآخرين بالحسنى وتتجاوز عن هفواتهم، ونبتعد عن الكراهيات وسواد القلوب الذي لا يجلب إلا الدمار والخصومات والقطيعة، فالتعامل مع الآخر سواء كان شريك حياة أو ابنا أو صديقا أو جارا أو زميلا في الدراسة والعمل لا يقوم إلا وفق مكارم الأخلاق التي انبعثت من جديد وطبقت على يدي خاتم الأنبياء والمرسلين ﷺ، فعندما نريد أن نتحدث مع أحد فليكن بهدوء واحترام واستماع للآخر بإنصات، وإذا تعاملنا أو عاتبنا أو أعطينا فليكن ذلك نورا يستمد هديه من شمس النبوة.