آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 5:41 م

«أحدث من سقراط»

الدكتور توفيق السيف * صحيفة الشرق الأوسط

كثيراً ما واجهني سؤال التفاضل بين ما ورثناه من أسلافنا، وما عرفناه من أهل عصرنا. في الأسبوعين الماضيين كتبت عن فكرة الشرعية السياسية ومصادرها، فواجهت سؤالاً: لماذا نستعير مفاهيم ابتُكرت في الغرب مع وجود نظائر لها في تراث الأسلاف؟ وقبل ذلك، قال أحد القراء ساخراً: أنت تدعو للقطيعة مع التراث، ثم تستشهد بآراء سقراط الذي مات قبل 2400 عام. أليس فلاسفة المسلمين «أحدث» من سقراط؟

هذا النوع من الأسئلة لا يعتمد معايير النقد العلمي؛ فالعلم لا يعترف بالهويات والجغرافيا. أهل العلم يبحثون عن أدلته حيثما كانت، في الماضي أو الحاضر، عند سقراط أو ابن سينا، بلا فرق على الإطلاق. لكن صاحب السؤال والكثير ممن يقرأونه لا ينظرون لهذه الزاوية أو لا يقبلونها، لا سيما لو ظنوا أن الفكرة المطروحة ذات صلة بالدين أو أن لها ظلالاً دينية.

وفي سنوات سابقة حظيت هذه المسألة باهتمام كبير، حين اتسعت الدعوة لما سموه «أسلمة العلوم»، وأقام بعض الأدباء جمعية للأدب الإسلامي وأخرى للقصة الإسلامية، وعقد غيرهم نقاشات لتمييز العلوم الفاسدة، وقرروا على سبيل المثال، أن علم الاجتماع الحديث فاسد؛ لأنه قام على أسس معادية للدين الحنيف، وأن كبار منظّريه ملحدون. كما سمعنا متحدثين عن طب إسلامي، بمعنى إحياء أساليب علاج تطورت في العصور الإسلامية القديمة، وسمعنا أحاديث عن عسكرية إسلامية، وسياسة إسلامية... إلخ.

بدأت هذه الدعوة بغرض محدد هو تحييد البحوث العلمية المخالفة لقيم الدين وأخلاقياته، نظير أبحاث الهندسة الجينية والجرثومية. لكنها أثارت حماسة بعض الناشطين البعيدين - من حيث التخصص - عن حقل العلوم البحتة. هؤلاء بدأوا يتحدثون عن منظور آيديولوجي، محوره «سبق» المسلمين في مجال العلوم، وعدم حاجتنا إلى الغرب فيها.

أظن أن المحرك الأقوى لانتشار الفكرة، هو الفرضية التبسيطية القائلة بأنه «إذا كان لدينا منتج، فلماذا نستورده من الخارج؟». ويزداد تأثير هذه الفرضية حين يشار - كما يحصل دائماً - إلى أن تلك العلوم قد تطورت في ظرف ديني.

لكن اعتبارها يتلاشى إذا بان سقم مقولاتها وانعدام جدواها. خذ مثلاً «الاقتصاد الإسلامي» الذي لم يستطع دعاته تطوير نموذج تنموي قادر على مجادلة النظريات السائدة في عالم اليوم، ومثله «المصرفية الإسلامية» التي اكتفى أصحابها بتغيير مسمى المعاملات، وإضافة إجراءات شكلية، ادّعوا أنها كافية للخروج من أشكال الربا، ولم ينجحوا أبداً في تطوير نموذج للوساطة المالية خارج إطار المصرفية المعروفة في عالم اليوم.

لم تعمر هذه الدعوة إلا يسيراً؛ لأنها فشلت في الاختبار. وظهر سريعاً أنها مبنية على أرضية هزيلة، حوّلت الدين إلى عباءة أو صبغة، بدلاً عن أن يكون مضموناً لرؤية كونية، تنظم علاقة الإنسان مع البشر الآخرين ومع الكون الذي يعيش فيه.

حقيقة الأمر، أن علينا التحلي بشجاعة الإقرار، بأن القرآن ليس كتاب طب أو هندسة أو اقتصاد، وأن الله أعطى لعباده عقولاً كي يتفكروا ويتفاكروا، وكي يتعاونوا مع بعضهم لتدبير حياتهم على النحو الأمثل. لا ينبغي أن نشعر بالقلق لو تركنا علوم الأسلاف، إلى ما هو خير منها عند غيرهم. ما يحدد أفضلية هذا على ذاك هو التجربة الفعلية، وليس أخبار الأولين أو الآخرين، ولا كونها ولدت في بلدنا، ضمن إطارنا الثقافي، أو في بلدان الآخرين وضمن إطارهم. إن أعقل الناس - كما ورد في الأثر - من جمع عقول الناس إلى عقله وليس من احتفى بأسلافه وكتبهم.

باحث ومفكر عربي من المملكة العربية السعودية.