آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 4:37 ص

قصة قصيرة

رعشة قلب

عبد الباري الدخيل *

كانت طفلة تلعب في الممر المؤدي إلى بيتهم، نادتها أمها، واستقبلتها خالتها وأخذتها للحمام، سكبت عليها الماء، ثم ألبستها ملابس جديدة، وعلمت أنها ستذهب مع الرجل الذي يقف مع أبيها إلى منزله لأنها أصبحت زوجته.

وبقيت طفلة حتى بعد أن أصبحت أمًا، كانت تلعب مع الأولاد، ولعلها تضرب بعضهم، وتبكي كطفلة إذا أخذ أحدهم لعبها.

واستمرت طفلة حتى في اليوم الذي طلقها فيه زوجها، وتركت له ولدها قائلة: ”خذ ولدك ما أبغي شي منك“.

وبقي قلبها قلب طفلة، وبقي طفلها لعبتها التي أخذت منها، وصارت تحمل وسادة وتهزها كلما هزها الشوق لوليدها.

يتهادى طيفه أمامها كل يوم ليسرق النوم من حقيبتها، ويربك يومها، وعند مدخل كل فجر كانت تسمع صراخه وهي نائمة، فتقفز من سريرها وتبحث عنه، ثم تجمع مفرشًا أو منشفة، وتضعه على مقربة من قلبها وتغني له حتى ينام.

رفضت أن تكرر التجربة، لاذت بالصمت، واتخذت من الكتب طريقًا للهروب، وأبت أن يشارك حبه أحد، وعاشت على أمل أن تراه، فتكسرت سنوات عمرها، وانتحر سواد شعرها بعد أن هاجمه البياض، ”ولم أرَ مثل الشيب سقمًا بلا ألمْ“.

عاشت أكثر من عشرين سنة من الظلام البارد، والأيام تمر رويدًا رويدًا، وكأنها سكين حادة تقطع الأكف المسحورة بالجمال، فلا يرى إلا السراب، كانت تراقب تقلب الليل والنهار من خلال ستائر القلق، ونوافذ الصبر، وتأمل أن تملأ سلالها من نظرة عابرة لولدها الذي أصبح شابًا بعيدًا عن عينيها.

ذات مساء أخبرتها جارتها أم سعيد أن سعيدًا الذي يعمل في السوق تعرف على شاب يعمل في محلٍ مجاور أسمه يشبه اسم ولدها.

أشعل هذا الخبر السعادة في قلبها، وبدأ الجليد يذوب قليلًا قليلًا، حتى أنها ولأول مرة منذ عهد قديم أزاحت الستارة عن المرآة، وبشرت السيدة العجوز التي ظهرت لها بأن الفجر قريب، وأن المطر سيروي الأرض بعد اليأس، وطالبتها بالعودة لشكلها الأول لعله يتعرف عليها، واستسلمت للأوهام الجميلة وذهبت تسابق الثواني، ووقفت على باب المحل تتأمل في الشاب الذي يجلس خلف المنضدة، وعيناها تلتهمانه التهامًا، كأنها بدوي عثر على بئر ماء بعد عناء الضياع، خانتها رجلاها، وتوقفت الحياة عن النبض، والساعات عن الركض، وقفز نصف قلبها يحتضن نصفه الآخر.

التفت إليها، وقال: ”نعم يا خاله، تبغين شي؟“

حاولت الكلام لكن الحروف تساقطت في بئر حلقها، لاذت بالصمت لكي تواري حبها، وخافت أن تفضحها عيونها، ”عبثًا يخبئ سِرّه في صمته.. من قال أن الصمت لا يتكلم؟“.

قالت: أبحث عن دهن عود طيب مثل طيبك، ثم قالتها لأول مرة «يا ولدي» وكادت أن تختنق بها إلا أن الله منحها من القوة ما جعلها تتجرأ وتتغلب على لهفتها، وخوف أن تنهار طلبت كرسيًا وجلست عليه تتأمل طفلها الذي صار شابًا وهو يعرض عليها أنواع العطور، وهي ترفضها واحدًا واحدًا لتطيل البقاء عنده.

همست مع نفسها: لم أرك منذ كنا طفلين، ولم نلتق على طريق الصدفة، كنا نلتقي في الذاكرة، فأنت طفلي الذي أسهر أراقب خطواته الأولى، واخضرار عوده، وتفتح أزهاره، ومناغاته لألعابه، كنت أقف عند باب قلبي كل صباح وأبتهل إلى الله أن يسلمك، وها أنا ذا أرتب نبضي على رفوف اللقاء.

قالت له: يا ولدي أنت أطيب عطر في هذا المحل، وتعجبت في نفسها أن «الزبالة» طليقها قد أحسن تربيته هكذا، لهذا سألته: من التي ربتك يا ولدي على هذه الأخلاق؟

قال: إنها عمتي، فبعد أن توفيت أمي وتزوج أبي أخذتني عمتي وربتني مع أولادها.

قالت: إنك تشبه سيدة أعرفها، اسمها فوزية ضننتك في البداية ابنها، لكنّ قلبي قال أن في وجهك شبه من سيدة أخرى أعرفها اسمها مريم.

قال: مريم أمي ”رحمها الله“ وفوزية عمتي.

كلماته لامست قلبها فعاد ينبض من جديد، ونظرت له نظرة أم كانت تتمناه أن يكون عصاها التي تتوكأ عليها في خريف عمرها، وتهش به خيبات الحياة.

وقفت لتغادر، ودعته داعية له بالتوفيق، وغادرت المحل وقد عادت الابتسامة إلى وجهها كما تعود الأزهار للبستان ساعات الربيع، وبدأت الحياة تعود لغصنها المتيبس، ورجعت إلى بيتها تحيط بها السعادة كطفلة دس والدها في جيبها مبلغًا كبيرًا كعيدية، وصارت كل يوم تهدي إحدى جاراتها عطرًا جديدًا اشترته للتو.