آخر تحديث: 1 / 6 / 2024م - 4:01 م

مذكرات أمل «20» الأخيرة

رضي منصور العسيف *

بعد أربعة أشهر باشرتُ العمل، استقبلوني الزميلات بحفلة السلامة، وكلمات تعبر عن مدى حبهم وعلاقتهم الطيبة، باشرت العمل بروح جديدة، أصبحت أعمل دون قلق من القسطرة، وسارت الأمور على أفضل حال.

في إحدى مراجعاتي للمستشفى وبالتحديد لعيادة المسالك البولية قررت أن أزور اختصاصي التغذية مرة أخرى..

طرقت الباب..

نظر إليّ.. وقال: أهلا بك..

قلت له: هل يمكنك تجديد وصفة فيتامين «أ»؟

ابتسم وقال: نعم يمكنني ذلك... ولكنك منذ مدة طويلة قد انقطعت عن العيادة... أعتقد أن «استمر» تحتاج تجديد...

ضحكت وقلت: الوصفة كاملة... هل يمكنني أن أبدأ معك من جديد..

ابتسم وقال: لا مانع... لنبدأ من جديد...

شرحت له الظروف التي مررت بها والعملية التي عملتها...

كان يقرأ الملف من الكمبيوتر وقال صحيح أنت أجريت عملية توسعة المثانة... الحمد لله على السلامة...

بدأ يتحدث عن الحمية وفيتامين «أ» ثم قال: في هذه المرة سأضيف إليك فيتامين «ه» وفيتامين «د»...

ضحكت وقلت: يبدو أن عيادتك هي عيادة فيتامينات...

ابتسم وقال: إنني أؤمن بأن الحمية هي مزيج من العلوم الغذائية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية أيضاً...

صار يتحدث عن الحمية بهذا المفهوم، ثم قال الحمية هي ثقافة... الحمية تغيير للأفضل...

قلت وما هو فيتامين «ه» وفيتامين «د».

قال: فيتامين «ه» أعني به الهدف، ما هو هدفك من اتباعك للحمية وأعني به أيضاً أن تكون لك «همة عالية» حتى تصلين للهدف...

قلت وماذا عن فيتامين «د»؟

قال: فيتامين «د» أعني به الدعم.. قد يكون دعم العائلة أو الأصدقاء أو الاختصاصي... وأعني به أيضاً الدافعية الذاتية... كلما كانت لك دافعية كلما نجحت في الحمية...

صار يتحدث في هذا الجانب وأنا أستمع إليه...

قلت له: هل أنت متخصص في علم السلوك والتغيير.. هل أنت متخصص في التنمية البشرية وتطوير الذات... أراك تتحدث ببراعة في هذا الجانب...

ابتسم وقال: هذا هو جانب مهم يجب أن يرتبط بالحمية الغذائية، قلت لك الحمية هي ثقافة... كلما كنت مثقفة كلما نجحت في حميتك أيضاً...

استلمت منه وصفة الفيتامينات وخرجت بعد أن قررت أن أنطلق من جديد...

.....................

لازلت أراجع عيادة أمراض النساء مع الدكتورة خلود للاطمئنان فقط، عندما خرجت من العيادة سمعت الممرضة تنادي ”رقية“...

نهضت إحدى السيدات أمامي... نظرت إليها... رقية... أهذه أنت؟!

نظرت لي... عانقتني بدموعها...

سألتها: أين أنت... سنوات لم ألتقي بكم... ألم نتفق في آخر يوم في الجامعة أن نتواصل، وأن نزور جزيرة تاروت ونأكل الكنار...

رأيت دموع رقية...

سألتها ما بك؟

قالت: أعتذر منك... لقد مررت بظروف صعبة...

هل يمكن أن تنتظري حتى أنتهي من الموعد وأتحدث معك...

بعد انتظار 20 دقيقة خرجت رقية...

كانت مبتسمة

ابتسمت لها وقلت: آه أنت حامل...

قالت نعم حامل بعد معاناة ومواعيد وتحاليل... الحمد لله... لقد كتب لي الله أن أحمل بعد سبع سنوات من الزواج.. الشكر لله ثم للدكتورة خلود التي جاهدت معي حتى هذا اليوم... أنا الآن في نهاية الشهر التاسع وإن شاء الله أكون أم بعد أسبوعين...

سقطت دموع رقية...

سقطت دموعي فرحاً لما وصلت إليه رقية.. لقد تحققت أمنيتها..

قلت لها: ألف مبروك يا حبيبتي.. لقد فهمت سبب انقطاعك عني.. ولكن من اليوم دعينا نعيد التواصل مع بعضنا من جديد...

بعد أسبوعين وصلتني رسالة من رقية تبشرني بولادتها.. لقد رزقها الله طفلة جميلة أسمتها ”هبة“...

....................

جاءت أزمة كورونا «لن أحدثكم عن تفاصيل تلك الأيام سأدعها للمستقبل»

ذهبت لعيادة التغذية ولكني تفاجأت بأنها مغلقة...

سألت موظف الاستقبال: لماذا عيادة التغذية مغلقة؟!

أجانبي: لأن الاختصاصي من القطيف ولم يستطع الحضور بسبب حجر القطيف يوم أمس «8/3/2020 م».. أصابني إحباط كنت أرغب بمعرفة وزني... والتحدث مع الاختصاصي مرة أخرى...

في هذه الأزمة أيضاً تم إلغاء المواعيد في المستشفى، والحمد لله لم أكن أحتاج لمراجعة المستشفى فقد كانت صحتي مستقرة...

بعد أزمة كورونا وبعد عدة شهور وبعد أن استقرت الأوضاع في المستشفيات، قررت أن أعود للمستشفى وبالخصوص لعيادة التغذية والبدء في ترميم النظام الغذائي الذي أصابه الخلل في فترة كورونا...

تقابلت مع الاختصاصي سألته هل أصبت بكورونا؟!

ابتسم وقال: الحمد لله لم أصب...

بدأنا مشوار المتابعة من جديد...

هناك تفاصيل دقيقة في تطبيقي للحمية الغذائية... أهمها أن تمتلك ثقافة غذائية صحيحة...

خلال تطبيقي للحمية حدثت انتكاسات بسبب بعض المناسبات الاجتماعية مما كان لها تأثير سلبي على نزول وزني... لا أخفيكم إن تطبيق الحمية يحتاج إلى عزيمة وصبر ومرونة، وفن في التطبيق... وتذكروا أن النجاح لن يتحقق بين يوم وليلة... ربما شهور وربما سنوات...

بعد الاستمرار والتشجيع من الاختصاصي جاء اليوم التاريخي، اليوم الذي سأرى نتيجة اجتهادي في تطبيق الحمية... لقد اعتدت على تناول الأغذية الصحية وأصبحت التمارين الرياضية جزءاً من يومياتي...

ذهبت لقسم غسيل الكلى...

سألت عن الممرضة كلثم وطلبت منها أن تقيس وزني..

فقالت نعم لقد طلب مني الاختصاصي رضي ذلك لقد جاء صباح اليوم وأخبرني بأنك ستحضرين اليوم. أهلا بك على الميزان..

جاءت ممرضة أخرى ساعدت كلثم في وضعي على كرسي الوزن.

كنت خائفة أن تكون النتيجة محبطة.. كنت متوقعة نقصان وزني ولكني كنت خائفة أن لا أكون قد حققت هدفي..

ثواني حتى قالت كلثم وزنك يا أمل هو 58 كيلوغرام..

سألتها كم؟!

قالت 58 كيلوغرام

قلت ربما الميزان غير دقيق، هل ممكن نستخدم ميزان آخر..

ابتسمت كلثم وقالت ممكن.

أحضرت كرسي آخر

جلستُ عليه

نظرت لي كلثم وقالت: 58 كيلوغرام

غمرتني السعادة

لم أصدق

نظرت لكلثم وقلت لها غير معقول. اعذريني هل نجرب في ميزان ثالث وهذه آخر مرة آسفة جدا لقد أتعبتك معي.

قالت لا بأس..

أحضرت الميزان الثالث.. جلست عليه

بقيت كلثم صامتة وهي تنظر الي.. لحظات

داخلني القلق. هل يكون الوزن السابق خطأ. نظرت لكلثم بصوت قلق كم وزني؟!

ابتسمت وقالت: قلت لك 58 كيلوغرام..

غمرتني الفرحة

احتضنت كلثم وقبلتها بفرحة وأنا لا أصدق هذا الرقم 58

قلت لكلثم لقد خسرت 16 كيلوغرام

قالت ما شاء الله عليك وأنت بهذا الوضع خسرتي كل هذا الوزن.. أنت بطلة..

في هذه الأثناء جاء اختصاصي التغذية...

بادرته: كم تتوقع وصل وزني؟!

قال: 63 كيلوغرام

قلت له والفرحة تغمرني:

لقد وصلت لـ 58 كيلوغرام... لقد خسرت 16 كيلوغرام...

لم أعرف أن أضيف أي كلمة. لقد تبعثرت الكلمات

ابتسم وقال: الحمد لله... «عفيه عليش» أنت بطلة... انا افتخر بإنجازك..

خرجت من وحدة غسيل الكلى وأنا في غاية السعادة.

..................

الحلقة الأخيرة...

عدت من العمل وكنت مرهقة...

وجدت عائلتي مجتمعة في غرفة المعيشة، رأيت ورقة بها العديد من المخططات...

سلمت عليهم وقلت: ما بكم هل لديكم اجتماع خاص...

ابتسم أخي وقال: نعم هو اجتماع خاص وبقي قرارك، قرارك هو الذي سيحدد هل ننفذ المشروع أم نتوقف؟

صرت أنظر إليهم قلت: لم أفهم شيئاً... لماذا تتكلم بصيغة مبهمة... كن واضحاً في كلامك...

ضحك الجميع وقالت أمي: لا عليك من كلامه... لقد قررنا أن نذهب للعمرة... هل تذهبين معنا؟

داخلي شعور بالفرح، وكأن أحدهم أزاح عني تلك الهموم وضغوط العمل، قلت له: هذا ما كنت أنتظره.. الحمد لله، نعم سأذهب للعمرة حامدة شاكرة لربي على نعمه.. سأدعوه بلسان الحامدين الشاكرين..

قالت أمي على بركة الله...

تم حجز الطيران والفندق.

كان معنا أخي خالد وأختي زجل.

اغتسلت غسل التوبة إلى الله في بيتنا...

وصلنا مطار الطائف ومنه توجهنا للميقات الذي لبسنا فيه الإحرام وقمنا ببقية أعمال الإحرام. النية والتلبية..

عندما لبست ثوب الإحرام نظرت إليه وقلت في نفسي هذا ثوب التوبة ثوب النقاء والطهارة.. أتمنى أن يوفقني ربي لأن تكون حياتي بهذا الطهر..

صرت أردد التلبية بقلبي قبل لسناني... لَبَّيْكَ اللـّهُمَّ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ.

وصلنا الفندق. ارتحنا من عناء السفر.. وبعد ساعة قال أخي خالد هل أنتم مستعدون لأداء مناسك العمرة.

قلت بلهفة نعم مستعدون...

عند دخولي للحرم داخلني شعور بالرغبة بالبكاء. سأكون في ضيافة الرحمن هل أنا أستحق هذه الضيافة. هل يقبل ربي عملي.

بقيت دقائق أنظر للحرم أتأمل في كل زاوية منه وأشم منها رائحة المغفرة..

بدأت أسير برفقة صديقي الكرسي المتحرك الذي فرح عندما أخبرته بضرورة رفقته معي للعمرة... صرت أردد كلمات التلبية والتهليل والتسبيح والاستغفار.. سرت مع عائلتي وفجأة وجدت نفسي واقفة أمام الكعبة المشرفة.. بلا إرادة مني صرت أبكي وأبكي.. وأقول عفوك يا ربي عفوك.. جلت قدرتك..

صرت أنظر للكعبة ودموعي تنساب على خدي.. يا رب اغفر لنا..

بدأنا الطواف...

قالت أمي لأخي خالد كن حذرا وأنت تدفع أمل.. الزحام شديد ولكن الله يسهل الأمور..

صرت أطوف مع الطائفين وأردد كلمات الدعاء ودموعي على خدي..

في الشوط الخامس سمعت أحدهم يردد كلمات دعاء.. وَقَدْ أتَيْتُكَ يا إِلهي بَعْدَ تَقْصيري وإِسْرافي عَلى نَفْسي مُعْتَذِراً نادِماً مُنْكَسِراً مُسْتَقيلاً مُسْتَغْفِراً مُنيباً مُقِرّاً مُذْعِناً مُعْتَرِفاً، لا أجِدُ مَفَرّاً مِمّا كانَ مِنّي، وَلا مَفْزَعاً أَتَوَجَّهُ إليه في أمْري، غَيْرَ قَبُولِكَ عُذْري، وإدخالِكَ إِيّايَ في سَعَة رَحْمَتِكَ. اَللّهُمَّ فَاقْبَلْ عُذْري، وَارْحَمْ شِدَّةَ ضُرّي، وَفُكَّني مِنْ شَدِّ وَثاقي.

دعاء خاشع.. صوت حزين..

الصوت يأتي من الخلف

الصوت ليس غريبا عني كأني أعرف صاحب هذا الصوت...

وصلنا للحجر الأسود وبدأنا الشوط السادس.. يا ربي تقبل دعائنا..

سمعت نفس الصوت ولكن مقطع آخر...

أردت أن أنظر للخلف لأتأكد من صاحب الصوت.. هل أنظر للخلف. قلت في نفسي عليك أن تتوجهي لله تعالى أنت في ضيافة الله... كوني خاشعة. لا إراديا صرت أردد معه نفس الدعاء "سَيِّدي أنا الصَّغيرُ الَّذي رَبَّيتَهُ وَأنا الجاهِلُ الَّذي عَلَّمتَهُ وَأنا الضَّالُّ الَّذي هَدَيتَهُ وَأنا الوَضيعُ الَّذي رَفَعتَهُ وَأنا الخائِفُ الَّذي آمَنتُهُ وَالجائِعُ الَّذي أشبَعتَهُ وَالعَطشانُ الَّذي أروَيتَهُ وَالعاري الَّذي كَسَوتَهُ وَالفَقيرُ الَّذي أغنَيتَهُ وَالضَّعيفُ الَّذي قَوَّيتَهُ وَالذَّليلُ الَّذي أعزَزتَهُ وَالسَّقيمُ الَّذي شَفَيتَهُ...

لم أتمالك نفسي من البكاء.... يا ربي أنا السقيم جئتك طالبا الشفاء يا ربي...

انتهينا من الشوط السادس وبدأنا الشوط السابع..

وأنا خاشعة حتى طرق مسامعي صوته مرة أخرى بمقطع آخر..

"وَأعِنّي بِالبُكاءِ عَلى نَفسي فَقَد أفنَيتُ بِالتَّسويفِ وَالآمالِ عُمري، وَقَد نَزَلتُ مَنزِلَةَ الآيِسينَ مِن خَيري فَمَن يَكونُ أسوَأَ حالاً مِنّي اِن أنا نُقِلتُ عَلى مِثلِ حالي إلى قَبري لَم اُمَهِّدهُ لِرَقدَتي وَلَم أفرُشهُ بِالعَمَلِ الصَّالِحِ لِضَجعَتي،...

سمعت صوت بكاء صاحب الصوت فلم أتمالك نفسي حتى انفجرت بالبكاء...

كانت أمي بجانبي وأخي خالد يدفعني للأمام وبجانبه أختي زجل...

وصلنا لنهاية الشوط السابع... قالت أمي الحمد لله انتهينا من الطواف وتقبل الله أعمالك يا ابنتي... كنت لا أزال أبكي... أجبتها بصوت مبحوح تقبل الله أعمالنا...

أتممنا أعمال العمرة وعدنا للفندق.. صرت أفكر في صاحب الصوت.. أيكون هو؟! ربما يكون هو...

في اليوم الثاني وبعد صلاة الفجر كنت أتأمل الكعبة... التفت جهة اليمين: رأيته... إنه هو..

جاء أخي خالد وقال: ما رأيك أن تذهبي لتقبلي الحجر الأسود؟ سوف أذهب للعسكري وأخبره عنك، لعله يساعدك ويفسح لك المجال.

نظرت إليه وعيني دامعة قلت: أبهذه الوضعية ومع هذا الزحام؟!

قال أخي لنذهب لعلنا نوفق لذلك، اخترقنا تلك الصفوف، كأننا نطوف حول الكعبة حتى صرنا قريب الحجر الأسود.

ذهب أخي للعسكري تحدث معه...

كنت أنظر إليه...

صار أخي يلوح بيده.. هيا تعالي... اقتربي...

اقتربت وأنا أردد أتيتك يا رب معتذراً نادما... اقتربت من الحجر الأسود مددت يدي نحو أخي... الذي سحبني وقربني للحجر الأسود وقال هيا قبليه، هذه فرصتك للدعاء..

فاضت عيني بالبكاء وصرت أردد... والسقيم الذي شفيته... يا من اسمه دواء وذكره شفاء... يارب اسألك الشفاء والعافية... صرت أبكي وأبكي... يا رب... يا رب...

قبل أن أغادر الحرم نظرت للكعبة المشرفة وعيني تذرف دموع الوداع وقلت... يا ربي هل سيأتي يوم وأقف على قدمي... هل سيأتي يوم وأخطو خطوات... توقفت لحظة... سقطت دمعتي وقلت سيأتي ذلك اليوم بإذن الله... أنا لن أفقد الأمل...

انتهت

كاتب وأخصائي تغذية- القطيف