آخر تحديث: 28 / 4 / 2024م - 12:27 ص

محموص

عبد الباري الدخيل *

كنت أنتظر هذا العرض بفارغ الصبر، فلم أستطع طوال ما مضى من سنوات أن أحضر هذه المناسبة.

الدعوة التي قدمتها لي أم مصطفى كانت تلتقي مع يوم إجازتي، لهذا وافقت مباشرة على مرافقتها.

سنوات أربع منذ أن عملت معها وأنا أنتظر أي مناسبة لتزودني ”بعيشهم المحموص“، حتى وإن جاء باردًا فهو مميز ولذيذ.

- أم مصطفى متى اخترع المحموص؟

- لا أحد يعلم بالدقة متى وأين؟ وإن كان الأقرب أنه في جزيرة تاروت، وهي المشتهرة به الآن.

- وكيف نشأ؟

- يقال إنه بسبب الفقر كان يطبخ الرز مع البصل الذي كان متوفرًا، بينما اللحوم بأنواعها والأسماك إما غير متوفرة أو غالية الثمن.

- وكيف ارتبط بعاشوراء؟

- ليس مرتبطًا به بل بكل الوفيات، ونادرًا ما يطبخ في غيره من أيام، فهذه خصوصية.

- لكنني سمعت أنكم في اليوم الثامن تطبخون برياني أو كبسة..

- هذا يوم خاص بالقاسم ابن الإمام الحسن وهو المعروف بـ «العرّيس» لهذا يطبخ له شيء كما يطبخ في حفلات الزواج.

كنتُ أرسل السائق ظهر يوم «الوفاة»، وكانت تكرمني بصحن أو اثنين، فقد سرى حبه للأهل أيضًا، فكانوا يطلبونه كلّما توفّر.

لا أكشف لكم سرًا أن خالتي كانت تطلب مني أن أرسل لها في القصيم منه، وكانت قد ذاقته في إحدى زياراتها لي فأحبته.

وصلتُ إلى تاروت صباح يوم الخامس من المحرم، كانت الأجواء تنبئ عن حالة حزن تمر بها المنطقة، فالأعلام السوداء مرفوعة، واللافتات معلّقة.

أوقفتُ السيارة في المكان الذي وصفته لي أم مصطفى، واتصلت بها أخبرها بوصولي، فخرجت تستقبلني وقد ارتدت السواد من رأسها حتى أخمص قدميها.

المكان بسيط جدًا، عبارة عن بيت شعبي، دور واحد، مدخل يؤدي إلى صالة مربعة تتوسطها قدور الطبخ الكبيرة، وغرفتان تستخدم إحداهما كمستودع، والأخرى للجلوس والراحة.

في الجانب الأيمن من المطبخ/ الصالة يوجد حوض صغير يستخدم لغسل الأرز والدجاج والبصل المقطع.

بدأت الزيارة بالتعريف بالعاملات في الطبخ وتسمّيهن «خادمات الحسين»، أم عبدالسلام وأم حسن وأم علي وأم حسين وأم محمد وهكذا، وهذا لا يعني اقتصار العمل عليهن، فهناك فتيات من مختلف الأعمار.

عندما وصلتُ كانت النساء قد انتهين من تقطيع البصل وغسله، وقد وضع الزيت في القدور استعدادًا لبدء طبخ المحموص.

بعد قليل بدأت أم حسن بوضع الإناء الذي جمع فيه البصل المقطع على طرف القدر الكبير، ثم أمرت الحاضرات بالصلاة على النبي، فارتفع صوتهن بلحن واحد، وكأنهن مدربات عليه؛ اللهم صل على محمد وآل محمد.

بعدها وضعت الدفعة الأولى من البصل وهي تسمي الله وتسلم على الحسين.

وبدأ تحميص البصل، وكانت لي مشاركة في تقليب البصل للبركة، ثم ذهبت لغرفة الاستراحة، وانتظرت حتى تحوّل البصل إلى اللون الأسود أو البني الغامق، ووقفت أنظر إليهن وهن يضعن البهارات والملح والدجاج في القدور، ثم يغلقنها، ويتركنها حتى يستوي ما فيها ويأخذ اللون الغامق، ثم رفع الدجاج ووضع الرز مع رفع الصوت بالصلوات.

وبعد أن طبخ الأرز وضع عليه الدجاج، وترك حتى يكمل الاستواء، وقد أغلق القدر ووضع عليه قطع قماشية.

وعند اقتراب الوقت من الظهر، بدأ الناس يتوافدون لأخذ نصيبهم من البركة، فقامت النسوة بوضع الأرز في علب من الألومنيوم، وأخريات يضعن الدجاج، ويغلقن العلب.

طلبت من صديقتي أم مصطفى أن أشارك في «النجاب» أي وضع الرز في العلب، فقدمتني وناولتني المغرفة «الملّاس» وبدأت رغم حرارة الجو بسبب الأبخرة المتصاعدة من القدور، إلا أن السعادة الغامرة كانت تنسيني كل تعب.

اقتربت مني أم مصطفى وهمست: ”اطلبي حاجتك“

نظرتُ إليها فحركتْ رأسها من أعلى إلى أسفل والعكس، وظلال ابتسامة ثقة في وجهها.

بدأت الدموع تتجمع في عيني، وصورة حزن زوجي تلوح في وجهي، فأسررت: يا رب ديني ودين زوجي، يا رب اقضِ ديننا يا الله، ثم انهمرت دموعي وتركت المكان لأكمل مناجاتي منفردة.

بعد أربعين يومًا أو أكثر بقليل اتصلت بصديقتي أم مصطفى أسألها عن أقرب مناسبة:

قالت: وفاة النبي ﷺ بعد أيام، ليش؟

قلت: عليَّ نذر وأحب أن أوفيه، كل مصاريف الضيافة من رز ودجاج وخلافه ستكون منّي.

سألتْني: ما القصة؟

قلت: الحمد لله قضي ديننا.

قاطعتني: كيف؟

فصرتُ أشرح لها: بعد وفاة أبي قاطعني أخي عشر سنوات بسبب الإرث، وقد زارني اليوم وسلّمني شيكًا بمبلغ «153» ألف ريال، وقال: حقك «53» و«100» هدية صلح، وهو مجموع الدين الذي علينا.

بكت أم مصطفى وهي تردد: السلام عليك يا أبا عبدالله، اللهم ارزقنا شفاعة وبركات الحسين .