آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 4:39 م

نظرية العقل التواصلي.. فحص وتحليل

الشيخ زكي الميلاد *

اعتنى المفكر الألماني يورغن هابرماس بفكرة التواصل بطريقة غير معهودة، فاقت جميع اهتمامات الآخرين تقريبا، وعدت هذه الفكرة لاحقا علامة عليه يعرف بها وتعرف به، وذلك لجهده الكبير والمتميز في إعادة تخليق هذه الفكرة التي تغيرت معه صورتها ووجهتها، وأصبح النظر إليها يختلف ما قبله وما بعده.

وبفضل هابرماس اكتسبت هذه الفكرة ثراء معرفيا، وتراكما نظريا، وخبرة نقدية، وفتحت نقاشا واسعا ومعمقا، بقي حاضرا وممتدا زمانا ومكانا، ومتصلا بحقول معرفية عدة، كالفلسفة وعلم الاجتماع واللغة واللسانيات.

ومنذ أن تعرف هابرماس على هذه الفكرة لم يتوقف عن الاهتمام بها، وظل يطور فيها ويجدد، حتى تبلورت في نظرية عرفت بنظرية العقل التواصلي والعقلانية التواصلية، النظرية التي شيدها هابرماس وشرحها وأسس لها في عدد من مؤلفاته الفكرية والنقدية المهمة، منها: كتاب «نظرية الفعل التواصلي» الصادر سنة 1981م، وكتاب «الأخلاق والتواصل» الصادر سنة 1983م، وكتاب «القول الفلسفي للحداثة» الصادر سنة 1986م.

ومن الواضح أن هابرماس أقام هذه النظرية على أساس العلاقة بين ركنين رئيسين هما: العقل والتواصل، متصلة من جهة ومنفصلة من جهة أخرى عن باقي النظريات الفلسفية الأوروبية الكبرى، متصلة من جهة الركن الأول وهو العقل، ومنفصلة من جهة الركن الثاني الذي ظل يتغير من مفكر لآخر على مدى أزمنة متعاقبة ترجع إلى قرون عدة.

نلمس هذا الاتصال والانفصال مع المفكر الفرنسي ديكارت في القرن السابع عشر الميلادي الذي أقام نظريته على أساس العلاقة بين العقل والذات، ومن ثم عرفت بالعقلانية الذاتية، ونلمسه مع المفكر الألماني كانت في القرن الثامن عشر الذي أقام نظريته على أساس العلاقة بين العقل والنقد، ومن ثم عرفت بالعقلانية النقدية، ونلمسه كذلك مع المفكر الألماني هيجل في القرن التاسع عشر الذي أقام نظريته على أساس العلاقة بين العقل والتاريخ، ومن ثم عرفت بالعقلانية التاريخية، وهكذا مع المفكر الإنجليزي كارل بوبر في القرن العشرين الذي أقام نظريته على أساس العلاقة بين العقل والعلم، ومن ثم عرفت بالعقلانية العلمية.

وفي جانب العقل، أراد هابرماس أن يتحرر العقل من فلسفة الذات، بحثا عن درب آخر وجده في نموذج التواصل ليكون العقل تواصليا، وفي جانب التواصل أراد منه أن يكون منظما وفعالا متخطيا حالات الفوضى والاضطراب ليكون التواصل عقلانيا، الأمر الذي يعني أن في الجانب الأول تتأكد حاجة العقل إلى التواصل، وفي الجانب الثاني تتأكد حاجة التواصل إلى العقل.

وبات من الثابت، أن حجر الزاوية في نظرية هابرماس هي التحرر من فلسفة الوعي أو فلسفة الذات، فقد وجد هابرماس بحسه النقدي، وأفقه المعرفي، وخبرته الاجتماعية الطويلة، أن الفلسفة الأوروبية الحديثة قد أغرقت نفسها كثيرا في فلسفة الوعي أو فلسفة الذات، ووصلت إلى حد الإنهاك، وحتى الاحتباس بعد أن ظلت لزمن طويل في مدار هذه الفلسفة، يرتد إلى زمن ديكارت في القرن السابع عشر، ويمتد متعاقبا إلى ما بعده من الأزمنة، وصولا إلى القرن العشرين حتى نهايته، مع أصحاب البنيوية وما بعد البنيوية.

الوضع الذي رأى فيه هابرماس، أن الفلسفة الأوروبية وصلت إلى حال أوجب عليها ضرورة التحرر من تلك الفلسفة - فلسفة الوعي أو فلسفة الذات - التي إما أنها استنفدت كل طاقاتها، وإما أنها وصلت حد الإنهاك، وإما أنها تجمدت وتكلست ولم تعد قادرة على تخطي ما ألفت عليه، الحال الذي دفع هابرماس إلى البحث عن درب آخر، وجده في التواصل بوصفه معبرا عن فلسفة العبور من فلسفة الذات إلى فلسفة الآخر.

وقد ظل هابرماس مدافعا عن هذا الموقف، ومتمسكا به، وله سيرة فكرية ونقدية طويلة في هذا الدرب، سيرة حافلة بالجدل والنقاش والفحص للنصوص الفلسفية الكبرى في تاريخ تطور الفلسفة الأوروبية الحديثة والمعاصرة، كما تجلى في كتابه الشهير «القول الفلسفي للحداثة»، الذي أراد منه حسب قوله، العمل على إعادة بناء القول الفلسفي للحداثة خطوة أثر خطوة منذ نهاية القرن الثامن عشر.

وتقع نظرية العقل التواصلي ما بين الفلسفة وعلم الاجتماع، وهما الحقلان اللذان عرف بهما هابرماس، فهو من جهة فيلسوف من طراز رفيع، يرى فيه البعض أنه يذكر بفيلسوف ألمانيا العظيم كانت، وهناك من أطلق عليه لقب كانت العصر، وهو من جهة أخرى عالم اجتماع عرف بهذه الصفة قبل أية صفة أخرى.

وتظهر الفلسفة في النظرية في الحديث عن جانب العقل، ويظهر علم الاجتماع في الحديث عن جانب التواصل. بمعنى أن النظرية هي أقرب إلى الفلسفة في جانب العقل، وأقرب إلى علم الاجتماع في جانب التواصل، ولهذا فهي تعد نظرية فلسفية من جهة، ونظرية اجتماعية من جهة أخرى، تبحث وتناقش في الدراسات الفلسفية، وتبحث وتناقش في الدراسات الاجتماعية.

وعن بنية النظرية ومكوناتها، فهي تتحدد في العناصر والعلائق الآتية:

أولا: العلاقة بين العقل والمجتمع

حاولت هذه النظرية دفع العقل لأن يتحول من فاعلية ذاتية إلى فاعلية اجتماعية، وتأكيد العلاقة بين العقل والمجتمع، وكما أن العقل يزود المجتمع بطاقة حيوية خلاقة لا غنى عنها في جميع الأزمنة والحالات، فإن المجتمع كذلك يزود العقل بطاقة حيوية خلاقة لا غنى عنها أبدا.

والمقصود من هذه العلاقة، أن يتجه العقل إلى المجتمع ليكون عقلا اجتماعيا تواصليا ومتواصلا مع المجتمع، وأن يتجه المجتمع إلى العقل ليكون مجتمعا عقلانيا متواصلا مع العقل وبلا توقف أو انقطاع. فمشكلة العقل حسب هذه النظرية تظهر حين ينفصل عن المجتمع وينقطع، أو حين يتعالى عليه ويترفع عنه، ومشكلة المجتمع من هذه الجهة، تظهر حين ينفصل عن العقل وينقطع، أو حين لا يتنبه له، ولا يتبصر به.

والحكمة من هذه العلاقة، أن لا يتحول العقل إلى أداة ضبط وسيطرة وتحكم في المجتمع، وإنما ليتمثل سلوكا تشاركيا يعزز التواصل في المجتمع ويرسخه، ويعطيه قوة الثبات، وديمومة البقاء ليكون تواصلا فعالا.

ثانيا: العلاقة بين العقل والأخلاق

في هذه العلاقة، أراد هابرماس من جهة تأكيد حاجة العقل إلى الأخلاق، حتى لا يظهر العقل بمظهر القوة والخشونة، ويمارس الفرض والإكراه، وهي الحالات التي يتغير طبعها متى ما اتصل العقل بالأخلاق، ومن جهة أخرى تأكيد حاجة الأخلاق إلى العقل، لبناء الأخلاق والنظام الأخلاقي على أسس المعايير العقلانية، ليكون موضع رضا وقبولا من المجتمع بكليته.

من جانب آخر، أراد هابرماس من هذه العلاقة أن يدفع العقل نحو التواصل والنشاط التواصلي، الأمر الذي يستدعي الحاجة إلى الأخلاق، وبهذه الحاجة يبرز العقل فاعلية التواصلية، وبدونها تتقلص هذه الفاعلية وتنكمش، فالتواصل في فضائه العمومي بحاجة إلى أخلاق تتحول إلى أخلاق تواصلية، وبهذه الأخلاق يصبح التواصل أمرا ممكنا ومطلوبا من الجميع وإلى الجميع.

ثالثا: العلاقة بين العقل واللغة

أعطى هابرماس أهمية كبيرة لعامل اللغة، التي مثلت مكونا أساسيا في نظرية العقل التواصلي، وبات من غير الممكن فهم هذه النظرية وتكوين المعرفة بها بعيدا عن عامل اللغة، وهناك من يرى أن فكرة التواصل عند هابرماس تنبع أساسا من اللغة، كما لو أن اللغة تمثل منزلة الأصل والأساس في تكوين هذه الفكرة.

وما كان بالإمكان دراسة فكرة التواصل، وتطوير هذه الفكرة بعيدا عن اللغة التي تتخذ من التواصل وظيفتها الأساسية، فإذا كانت اللغة هي بمثابة الأداة في فعل التواصل، فإن العقل هو بمثابة الجوهر لهذه الفعل الذي ينقل اللغة من وضعية الكلام إلى وضعية الخطاب، لتكون اللغة مدعمة بالعقل في فعل التواصل، وليكون العقل مدعما بلغة تواصلية.

هذا من ناحية التحليل، أما من ناحية التقويم، فقد مثلت هذه النظرية أهم خبرة معرفية في تطوير فكرة التواصل، وإعطاء هذه الفكرة هذا الأفق الواسع فكريا واجتماعيا، مع ما لهذه الفكرة من أهمية متعاظمة، فالعالم اليوم بأمس الحاجة للأفكار والمفاهيم والنظريات التي تنحو منحى التواصل وتدفع به، وتشجع عليه، خاصة في ظل ما يشهده العالم من حروب ونزاعات وانقسامات حادة، ومع وجود وصعود نظريات تنزع نحو الأحادية والصدام، مثل نظريات: نهاية التاريخ وصدام الحضارات والبحث عن عدو جديد وغيرها.

لكن وجهة النظر أن هابرماس طرح فكرة التواصل في داخل الثقافة الأوروبية، وحصرها في هذا النطاق، وقيدها بهذا الإطار، وحددها بهذا الأفق، وأراد منها إصلاح خطأ، أو معالجة ضعف، أو تكميل نقص، أو فتح أفق يتصل بالثقافة الأوروبية ويتحدد بها، ولا يتعداه إلى خارج نطاقها، بما يتصل بالعلاقة مع الثقافات الأخرى غير الأوروبية، وهنا مكمن الضعف في النظرية.

الحوار، الرياض- مجلة فكرية ثقافية فصلية، العدد 26، رجب 1438هـ/ أبريل 2017م
كاتب وباحث سعودي «القطيف»