آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 4:57 ص

من الذي يحب الحكمة؟

الشيخ زكي الميلاد * المجلة العربية ، العدد 505

أحسنت الفلسفة كثيرا حين عرفت نفسها بطريقة جمالية تثير الدهشة بجمالها، حين قالت أنها تعني حب الحكمة أو محبة الحكمة، فجمعت بين كلمتين جميلتين مبنى ومعنى، لا يختلف أحد من البشر على جمالهما، هما: كلمة ”حب“ وكلمة ”حكمة“، وضمت بينهما ضما بقي ثابتا وممتدا في تاريخ الفكر الإنساني، وتفردت الفلسفة بجمالية هذا الضم الجميل والبديع.

وبهذا التعريف تكون الفلسفة قد أنشأت نمطا جديدا يضاف إلى أنماط الحب وأنواعه، لعله لم يكن مألوفا في سيرة الحب عند البشر، نمطا يتخطى عناوين العاطفة والقلب والمشاعر والوجدان وكل السيل المتدفق من الأحاسيس الجوانية، ليرتقي إلى عنوان العقل إنه حب الحكمة، إعلانا من الفلسفة بأن للحكماء حب يتفردون به، ولا يكاد يخطر على بال كثير من البشر، هذا هو حب الحكماء الذي يتقدم على كل شيء، ويتأخر عنه كل شيء، ولا يقوى عليه صبرا وطاقة وألفة إلا الحكماء.

ولولا هذا الحب ورسوخه وعظمته، لما وجد في تاريخ الفكر الإنساني حكماء أمثال: سقراط وأفلاطون وأرسطو في الأزمنة القديمة، وأمثال: الفارابي وابن سينا وابن رشد في الأزمنة الوسيطة، وأمثال: ديكارت وكانت ولوك في الأزمنة الحديثة، وكل الحكماء الذين نعرفهم قديما وحديثا وبين الملل والنحل كافة، وهكذا الحكماء الذين سيعرفهم الناس مع توالي الأيام وتقادم الأزمان.

الأمر الذي يعني أن الفلسفة قد وضعتنا أمام مقولة موصوفة بالجمالية في بيانها ومنطوقها اللساني، وثرية في معانيها وحقلها الدلالي، وعند الفحص والنظر يمكن الكشف عن العناصر والأبعاد الآتية:

أولا: إن حب الحكمة يعني أن ترتقي العلاقة بالحكمة والفكر إلى درجة التعلق الشديد، في دلالة على قوة العلاقة ومتانتها، لا أن تكون مجرد علاقة عابرة أو عادية سرعان ما تنتهي وتتلاشى، فالحب يقتضي تعلقا شديدا بشكل يأنس فيه الإنسان مع الفكر ويبتهج، يتوق إليه ويحن، يروم له ويستوحش من فراقه، يجالسه ولا يمل.

هذه هي حال الحكماء وسلوكهم مع الفكر، وهذا ما يقتضيه الفكر وما يستوجبه من كل إنسان في كل زمان ومكان، وما من إنسان أصبح حكيما ومفكرا إلا لأنه تعلق بالفكر بهذه الدرجة من الحب والعشق، فالفكر هو حب الحكماء والمفكرين وعشقهم.

ثانيا: إن حب الحكمة يعني بقاء العلاقة مع الفكر ودوامها، في دلالة على جدية العلاقات وعمقها، لا أن تكون مجرد علاقة مؤقته أو منقطعة سرعان ما تبتر وتنفصل، وهذا ما يتطلبه الفكر الذي يشترط في العلاقة معه زمنا طويلا لا حد له ولا نهاية حتى يعطى ثماره الناضجة.

هذه العلاقة الطويلة والجادة مع الفكر لا تستمر وتدوم بدون حب الفكر، فالحب هو الذي يتحكم في سير العلاقات بكل أنماطها بقاء وانتهاء، قوة وضعفا، فمع الحب تبقى العلاقة وتستمر، وبدونه تفتر وتنقطع، وهذا ما يعرفه الناس جميعا في سيرتهم مع الحب بكل أنماطه، وما يعرفه الحكماء والمفكرون كذلك الذين يكنون حبا للفكر قادهم لبقاء العلاقة معه ودوامها.

ثالثا: إن حب الحكمة يعني محاولة الوصول إلى طلب الحقيقة وعشقها، والتودد منها، والتقرب منها، ولا يعني أبدا تملكها ولا الإدعاء بتملكها، فمن يطلب الحقيقة ويعشقها يصل إليها وتصل إليه، بخلاف من لا يطلبها ولا يعشقها، ومن يدعي تملك الحقيقة فإنه لا يعشقها فعلا وحقيقة، ولو كان يعشقها لما ادعى تملكها، ولرفض هذا الإدعاء حصولا منه ومن غيره.

وهذا المعنى من أكثر المعاني انكشافا وتداولا في الكتابات والدراسات التي تناولت هذه القضية، وجاء بقصد نقد موقف أولئك الذين يدعون امتلاك الحقيقة لأنفسهم وحجبها عن غيرهم، فيتعالون على الناس بهذا الإدعاء، ويزكون أنفسهم بإدراك منهم أو بدون إدراك، متخالفين مع منطق النص القرآني الذي نهى عن هذا الإدعاء في قوله تعالى «فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى» - النجم، آية: 32 -

رابعا: إن حب الحكمة يعني أن يبادر الإنسان لطلب الحكمة، ويظل ملحا في طلبه وشغوفا، مكابدا وصابرا في هذا الدرب حتى يصل إلى مرامه، ومن لا يبادر لطلب هذا الحب لن يصل إلى الحكمة ومصاحبتها، فالحكمة لا تأتي إلى الإنسان فهو من ينبغي أن يذهب إليها، ويفتش عنها، ويسعى سعيه في هذا الدرب ولا يستوحش لقلة سالكيه.

وما أكثر الناس الذين يبحثون عن المال والثروة والرفاه والوجاهة والجاه والسلطة، وما أقل الناس الذين يبحثون عن الحكمة، وليس كل من طلب الحكمة وصل إليها وثبت في طريقه وصبر، لكن الذي وصل إليها هو الذي طلبها وكابد في طلبها.

خامسا: إن حب الحكمة يعني في نظر بعض محاولة الجمع بين الجانب العاطفي والجانب العقلي، فكلمة الحب توحي بالجانب العاطفي، وكلمة الحكمة توحي بالجانب العقلي، في دلالة على القدرة عند الفلسفة والرغبة في الجمع بين هذين الجانبين توازنا وحكمة، وأنها لا تلغي الجانب العاطفي أو تهمشه حتى مع انحيازها إلى العقل والجانب العقلي، فالفلسفة التي عرفت بأنها علم العقل جاءت بهذه المقولة لكي تظهر قربا من العاطفة، ولتلهم العقل البارد دفئا من العاطفة.

سادسا: إن حب الحكمة يعني أن الحكمة بهذا الحب وبقائه ودوامه عندئذ تجاهر بأسرارها، كما يجاهر المحبين بأسرارهم لمن يحبون، وبهذا الحب تكشف الحكمة عن كنوزها، وتبرز معانيها، وتتجلى ببصائرها، وتضيء بنورها، وتسكن فؤاد من يبادلها القرب والحب، فمن أعطى الحكمة حبا أعطته بصيرة ونورا ونظرا بعيدا وخيرا كثيرا، فأين هم الذين يحبون الحكمة؟

كاتب وباحث سعودي «القطيف»