آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 7:46 م

صورتان عن الإنسان والقانون

الدكتور توفيق السيف * صحيفة الشرق الأوسط

لعل بعض القراء قد لاحظ معي مبادرة بعض الدوائر الرسمية بنشر أجزاء من أنظمتها أو لوائحها في الصحافة ومواقع التواصل الاجتماعي. وهو عمل طيب، يساعد في توعية الناس بالقانون، وجوده وحدوده. لكن لفت انتباهي التركيز - العفوي غالباً - على الحدود والعقوبات، دون الحقوق التي يبتغي النظام إقرارها، والمصالح التي يريد حمايتها.

وقد ذكرني هذا بمناقشات سابقة، حول مفهوم القانون والفلسفة التي يبنى على أرضيتها، والخلفية الذهنية لواضعيه.

أستطيع القول بشكل مجمل إن وضع القانون «ومن بعده اللوائح التنفيذية التي تحكم تطبيقاته» يتأثر بالخلفية الذهنية والتجربة الثقافية لواضعيه، فيأتي على إحدى صورتين: 1 - قانون يركز على «بيان» حقوق المواطنين وكيفية الوصول إليها. 2 - قانون يركز على «حدود» المسموح للمواطنين والعقوبات التي ستطبق على المخالفين.

نعلم طبعاً أن القانون لا يكتمل ما لم يشتمل على الجانبين. لكن بدا لي أن القانون في البلاد العربية، يميل بشكل عام إلى التقييد وبيان الواجبات من دون الحقوق. أو لعله يركز على القيود والواجبات بدرجة أكبر من الحقوق. ويظهر أيضاً أن هذا المنحى هو المفهوم والمتعارف بين عامة الناس. فتراهم يذكرون في غالب أحاديثهم العقوبات والقيود، ويغفلون الجانب الآخر. ولعل مقصودهم هو تنبيه أصدقائهم كي لا يقعوا في المحظور.

أحتمل أن التركيز على الواجبات والعقوبات، مرجعه ذهنية متشائمة تجاه طبيعة الإنسان وميوله الفطرية. وأذكر عبارة لمفكر مشهور فحواها أن أي نظرية في السياسة، هي - بالضرورة - نظرية حول طبيعة الإنسان. وأرى أن الصحيح هو القول إن كل نظرية في السياسة «وفي القانون» مرجعها رؤية مسبقة عن طبيعة الإنسان.

ثمة من يعتقد أن الإنسان بطبعه ميال للفساد، والتملص من السلوك الأخلاقي الذي يمليه العقل السليم. وثمة من يرى المسألة على النقيض. فالإنسان عنده ميول للخير والالتزام بالأخلاقيات التي يقبلها العرف أو يدعو إليها. وكلا الفريقين لا ينكر وجود استثناءات، لكنه يقرر الحالة العامة الغالبة في المجتمع الإنساني.

وكان الاتجاه العام في ثقافة العالم، يميل للرؤية الأولى المتشائمة، حتى أوائل القرن الثامن عشر، حين مال مفكرو التنوير الأوروبي، للتخلي عن تراث الفلسفة اليونانية والتعاليم الكاثوليكية. فمالت الكفة لصالح الرؤية الثانية، التي تنظر للإنسان كائناً عاقلاً وميالاً إلى الخيارات الأخلاقية، في حياته وتعاملاته مع الغير. أما الثقافة العربية والإسلامية، فهي ما زالت متأثرة بانعكاسات الرؤية القديمة. وهذا واضح في التوجيه الديني، وفي الدراسات الفقهية، كما في القانون والسياسة.

لا يتسع المجال هنا للمقارنة بين الرؤيتين. وأظن أن كليهما سيجد من يميل إليه. لكني سأكتفي بوضع سؤالين يوضحان المقصود. السؤال الأول حول المخاطبين بالقانون. حيث نعلم أنه يطبق على كل الناس. فهل الغالبية العظمى من الناس يميلون - عادة - إلى العيش بسلام ويهتمون بصلاح حالهم ورفاه من حولهم، أم - على العكس - يميلون إلى العيش في نزاع وصراع ويفسدون دنياهم حيثما غاب الرقيب؟ السؤال الثاني: هل يميل غالبية الناس إلى الالتزام بالقانون إذا وجدوا فيه عوناً لهم على نيل حقوقهم وتسهيل حياتهم؟ أم أنهم سيذهبون - رغم ذلك - إلى الطرق الصعبة التي تنتهي للإضرار بهم أو بالآخرين.

أظن أن السؤالين يوضحان العلاقة بين تصورنا عن طبيعة الإنسان، وانعكاسه على فكرة القانون وأغراضه. وفي هذا ما يكفي عن كثير البيان.

باحث ومفكر عربي من المملكة العربية السعودية.