آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 3:46 م

تهادوا تحابوا

وديع آل حمّاد

حرص الإسلام على صياغة الإنسان صياغة حضارية ثقافية قوامها المحبة والمودة والألفة والوصال، نائية عن الأحقاد والضغائن والكراهية والخصام والجفاء، فأبرزَ أهمية تبادل الهدايا لما لها من أثر بالغ في إشاعة ثقافة الحب «و ما الدين إلا الحب». ولا يقتصر التبادل على الماديات بل تشمل المعنويات، فرُب هدية معنوية تفوق مادية في تأثيرها ونفعها، وخاصةً إذا كانت صادرة من قلب محب صادق وفي مخلص، يقول الله تعالى: «قول معروف خير من صدقة يتبعها أذى».

لي صديق صادق يتحفني على الدوام بهمسة صباحية تنطوي على علم ومعرفة وأفكار حية وملهمة جديرة بالنظر والتأمل.

في هذا المقال انتخبت إحدى همساته لتكون مادة للتأمل والنظر في مخزونها المعرفي والفلسفي، وهي: «جميل أن تبقى مختلفا في مكان تشابهت الأشكال».

هذه العبارة على قلة مفرداتها بيد أنها تحمل في ثناياها جدلية فكرية فلسفية تتعلق بحرية الإرادة.

هذه الجدلية محطة بحث وتأمل في الفكر الإنساني منذ أن بدأ الإنسان يتفلسف إلى يومنا هذا. واهتمام الإنسان بها لكونها مرتبطة تمام الارتباط بأنشطته اليومية وسلوكياته وتوجهاته ومتبنياته العقدية والفكرية وإبداعه واكتشافاته لأفاق رحبة.

وحرية الإرادة في الفكر الإسلامي تجاذبها طرفان على طرفي نقيض، طرف سلب من الإنسان قدرته على الاختيار، فنظر إليه بأنه كائن محكوم بقدرة قوة غيبية ألا وهي الله، فينبغي منه التسليم والخضوع التام لهذه القوة والاستسلام لها، دون أن يكون له حول ولا قوة، وهذا متبنى المدرسة الجبرية.

وطرف آخر يتبنى عكس ذلك، حيث يذهب إلى أن الإنسان يملك الحرية المطلقة، وهو مسؤول عن تصرفاته وأفعاله، حيث لا يقف أمام حرية إرادته عائق يحول دون تحققها، وهذه رؤية المعتزلة.

يقول أبو العلاء المعري في هذا الصدد:

فهل أنا فيما بين ذينك مجبر *** على عمل أم مستطيع فجاهد

وبين هذين الطرفين ثمة طرف ثالث يقف بين القول بالقسر وحرية الإرادة المطلقة «أمر بين أمرين»، وهذا واضح في قول الشيخ المطهري: «ليست أفعال الإنسان مستندة إليه تعالى، بحيث يكون الإنسان منعزلا عن الفاعلية والتأثير، كما ليست مستندة إلى نفس الإنسان بحيث تنقطع رابطة الفعل مع ذاته تعالى»، وهذا هو موقف الإمامية في هذه التشابك الفكري.

بعد هذا لنعد إلى تلك الهمسة الصباحية ونحاول الغوص في أعماقها بإثارة مجموعة من التساؤلات:

_ هل الإنسان قادر على الاختيار؟

_ هل الإنسان قادر على تحديد مساره في هذه الحياة؟

_ هل الإنسان بإرادته الحرة قادر على تخطي حاجز القوانين الطبيعية الفيزيائية؟

الإنسان وفق نظرية المعتزلة والإمامية يملك حرية الإرادة، وبالتالي هو كائن مختار مريد، مسؤول عن تصرفاته وأفعاله،

قادر على الانطلاق نحو أفاق جديدة رحبة وعوالم أخرى.

وهذه النظرية بالإمكان تلمسها منذ بداية الخليقة، فآدم وقع في المخالفة وهو في تمام حريته وليس ميسرا، وكذلك هابيل قتل أخاه قابيل وهو ليس واقعا تحت تأثير القسر والجبر، بل مريد مختار.

فالإنسان لكونه يمتلك حرية الإرادة وبمنأى عن الجبر والقسر وأي عامل خارجي قادر على اقتحام أي عالم بفاعلية، حيث لا يقف أمامه حاجز إلا القوانين الفيزيائية الطبيعية التي أودعها الله في هذا الكون وجهازه اللاإرادي والتأثير الجيني.

ولو سألنا مجموعة من الناس هذا التساؤل:

هل تجد في نفسك رغبة قوية نحو التميز والتفرد؟

ستكون إجابتهم جميعا بالإيجاب، انطلاقا من نزوعهم الفطري نحو التميز وامتلاكهم لحرية الإرادة. وبالتالي حرية الإرادة تحرك الإنسان نحو إثبات كينونته.

والإنسان الذي يسعى جاهدا نحو إثبات كينونته يمخر عباب السيرورة والتحول والصيرورة التي تبرزه ككائن حي مختلف عن الآخرين في التأثير والفاعلية، رافضا البقاء ككائن سكوني أستيتيكي، منعطفا نحو ما يبعده عن تشابه الأشكال، فهو شكل لا يماثله شكل في عطائه وتأثيره وفاعليته.

وحري بنا أن نستمع إلى نداء فطرتنا وصوت إرادتنا اللتين يحفزاننا على المضي قدما نحو التميز لا مشابهة الأخرين، وهذا معناه إبداع لا إتباع.

وأخيرا كل الشكر وعظيم التقدير لصديقي الذي على الدوام يتحفني بهمساته الصباحية. وكذلك لكل قارئ لهذا المقال على تقبل هذه البضاعة القليلة المزجاة له.