آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 3:46 م

«داعش» بين «العيارين» و«الشطار»!

ميرزا الخويلدي * صحيفة الشرق الأوسط

في الأسبوع الأخير من عمر «داعش»، نستذكر قصة عرفتها في بغداد في القرن التاسع الميلادي، خصوصاً في عام 812 ميلادية «196 ه»، هي ظاهرة ما سُمي بجماعة «العيارين» أو «الشطار»، وهم مجموعة من الرعاع يسميهم الطبري بأهل السجون والأوباش والطرارين.

ظهروا أولاً في عهد الخليفة العباسي الثالث المهدي «158 - 169 هـ / 775 - 786م»، ثم في عهد الرشيد، كمجموعات متناثرة من النهابين والزعران، وكانوا خليطاً من الأعراق والشعوب التي عاشت في ظل التباين الاقتصادي والاجتماعي الحاد في المجتمع، خصوصاً حالة الترف والبذخ التي عاشتها بغداد في عصر الرشيد. نما هؤلاء في الهامش، مع تيار فكري متطرف ينزع للعنف والاقتتال وخوض الحروب بضراوة ليس لها نظير. في البدء كانوا مجرد نهابين وسراق ومحترفي سطو وسلب، ثم نمت داخلهم أفكار استخدموها لتبرير أفعالهم؛ من قبيل السطو على أموال الأغنياء لانتزاع حق الزكاة منهم للفقراء، ثم ما برحوا أن تحولوا إلى تيار جاذب لأمثالهم من الطبقات المهمشة في المجتمع. غصت سجون بغداد بهم، لكن شأنهم أصبح عالياً في ظل الصراع السياسي بين ورثة هارون الرشيد، ففي ذروة الصراع بين الأمين والمأمون، حين حاصرت قوات المأمون بقيادة أبي الطيب الخراساني بغداد سنة 812 للميلاد، ودكها بالمنجنيق، استعان بهم الأمين فأخرجهم من السجون وجرى تجنيدهم وتسليحهم بسرعة، وزجّ بهم في الحرب المدمرة مع جيش أخيه المأمون، بل إن حاتم بن الصقر «من قادة الأمين» قد أباح لهم النهب... فتكونت مجموعات مسلحة «ميليشيا» من العيارين، شديدة القوة والمراس، التي صمدت حين عجز الجند النظامي عن الدفاع عن دار الخلافة، وأبلت بلاءً حسناً في التصدي للهجوم. وبعد هزيمة الأمين، وتعليقه على المشنقة سنة 813، انكفأوا قليلاً ثم عادوا ونشطوا في فترة الصراع السياسي بين أقطاب السلطة في بغداد، حين استعان بهم خليفة آخر هو المستعين بالله بعد أن حُوصر في بغداد خلال حربه مع المعتز.

وهكذا، كانوا لعبة سياسية بامتياز، قدموا مثالاً عبر الزمان لكيفية تجنيد الهامشيين والخارجين عن القانون في معارك طاحنة... لقد كان هناك من يستغلهم في أحيان كثيرة في إثارة الخوف والهلع، وأيضاً إثارة القلاقل والانقسامات بين الناس، بل حتى الفتن المذهبية كانوا يخوضونها، «فتنة بغداد مثالاً» وحين تخرج عن السيطرة يُستعان بهم لإخمادها، خصوصاً إذا عرفنا أنهم يتوزعون بين كل الاتجاهات والأعراق والنحل والمذاهب.

أما، لماذا يتعين علينا أن نقرأ سيرة هذه الجماعة المتطرفة ونحن «في الأسبوع الأخير من عمر «داعش» الافتراضي»، فلأن التاريخ يقدم لنا العبرة في أن هؤلاء ينتعشون بواسطة التوظيف السياسي وتقوى شوكتهم. لقد كانت هذه الجماعات عبارة عن أورام خبيثة نشأت في ظلّ الدولة حين أصيبت تلك الدولة بالأزمات والصراعات والانقسامات والضعف والتباين الطبقي وتراجع العدالة.

وهؤلاء يتكررون على مرّ الزمن، حيث نجد عصابات مسلحة، أو ميلشيات متطرفة، ترفع شعارات برّاقة، ولكنها في الحقيقة تسطو على النظام العام وتختطف الدولة وتحولها إلى مشروع فوضى. بعض هؤلاء كانوا أدوات صراع سياسي تنتهي بانتهائه، وبعضهم يبقى عبئاً ثقيلاً على الاستقرار وبناء الدولة.

الأسبوع الأخير من عمر «داعش» آتٍ لا محالة، لأنها لعبة مخابرات عالمية، وحين ينتهون منها سيركلونها. لكن الخشية من تلك الثقافة التي تنتج لنا كل زمان أخوات «داعش» وتغذي الظلاميين جيلاً بعد جيل، هذه الثقافة بحاجة إلى تفكيك وتجفيف المنابع.