آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 4:00 م

التفكير في حياة الألم

محمد الحرز * صحيفة اليوم

ليست الكتابة منذورة للألم كما يتم تصورها عند الكثير من الكتاب أو المبدعين، وليست منذورة للفرح أيضا، إذا ما استدعينا المقابل لكلمة الألم.

فالألم والفرح كائنان يرتبطان بالعالم، والإنسان ليس سوى تفصيل صغير في هذا العالم.

بيد أن حياة كل منهما تمتاز بالقدرة على الحفر وشق الطرق وبناء الجسور وجلب المياه إلى الآبار والأنهر الجافة، وكأن الألم لا يتوقف عن عمله الدؤوب في مد الكائن الحي بالإحساس بجسده أولا وبذاته وكيانه الداخلي ثانيا، رغم صعوبة التفريق بينهما عند الكائن نفسه لحظة التجربة.

الفرح كذلك يؤدي الدور نفسه. لكن الفرق بينهما يعتمد بالدرجة الأولى على طبيعة الكائن الذي يرتبط بهما، فالإنسان بخلاف الحيوان عنده تجربة الألم من التنوع والثراء، بحيث أصبح للألم تاريخ عريق يمكن تلمس تجلياته في كل شيء يتعلق بالإنسان في علاقته بالعالم والكون، فلو أخذنا على سبيل المثال، علاقته بالمعرفة وتاريخ تطورها على يديه، لوقعنا على نوع من الألم عنده، يختلف تماما عن نوع الألم الناتج عن تاريخ الحروب التي تخلفها على جسد الإنسان ونفسه، حتى تجربة الحب والعشق فيها من تجربة الألم ما تختلف وظائفها فيه عن بقية الوظائف الأخرى للألم في المجالات الأخرى.

فالألم المرتبط بالكتابة هو في حقيقة الأمر ليس سوى وهم الاتصال بالحقيقة. لكنه يظهر في وعي الإنسان من خلال تجلياته الأخيرة على صورة الألم كخبرة ثقافية اكتسبها الإنسان من حياته.

وهو وهم كما أرى تغذيه المخيلة من جانب، والقيم الثقافية التي تربى عليها من جانب آخر، وفي نهاية المطاف هما يؤديان مهمة اكتساب الإنسان تاريخه الثري في الألم مهما تنوعت تجربته الحياتية في الألم من أقصى الملهاة إلى أقصى المأساة.

والذين كتبوا إبداعاتهم وتفردوا بها عبر التاريخ، وكان محفزهم الأكبر هو مكابدات الألم سيجد المتأمل في أكثره وعيا تأويليا للألم نفسه، وهذا يعني وفقا لمعنى التأويل هنا غلبة المعرفة الثقافية عن الألم على الألم نفسه، أي أن كل تجربة للكتابة تتطابق وحياة الإنسان المأساوية تدفع في تبريراتها لوجود الألم باعتباره الدافع الأقوى للكتابة والتعبير عنه من خلالها.

لكن في تاريخ الحروب نحن نتلقى الألم كتجربة جسدية بالدرجة الأولى ثم نعمل على تأويله من خلال عمل الذاكرة أثناء الكتابة وقبلها، وهكذا أيضا حينما نتعايش مع تجارب الحب والعشق والفراق سواء في أقصى حالات الفرح فيها أو الحزن أيضا، فالنتيجة هي نفسها: نتلقى أولا عواقب التجربة على النفس أو الروح هنا ثم تتحول إلى مجرد تأويل في تاريخ الإنسان.

وإذا كان هذا هو حال الإنسان في تجربته مع الألم، فالحيوان بالتأكيد يختلف عن الإنسان كون هذا الأخير يعتمد بالأساس على الذاكرة التي بدورها ترتبط بالمخيلة من جانب واشتراطات العقل من جانب آخر. وهذا ما لا تصل إلى الجزم فيه بالنسبة للدراسات المرتبطة بعالم الحيوان، رغم أن التجارب المتطورة فيه تثبت قدرة بعض الحيوانات على تفعيل المخيلة لديها، ولست هنا في محل التفصيل في الموضوع.

لكن خلاصة الأمر في المسألة هو أن ما ينطبق على تجربة الألم أيضا يمكن أن ينطبق على تجربة الفرح. لكن بتفاصيل مختلفة لا تخرجها عن عمق المعنى الذي يعطى للألم في نهاية المطاف.