آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 3:46 م

من المناكفة إلى النهضة

الدكتور توفيق السيف * صحيفة الشرق الأوسط

تلفتُ نظري أحياناً ردودُ الفعل على الطروحات والأفكار الجديدة. وجدتُ مثلاً من ينسب التوجه الإصلاحي عند محمد شحرور إلى عقد نفسية. وثمة من قال إنَّ تركيز محمد عابد الجابري على نقد التراث، راجع إلى حرمانه من وظيفة كان يتطلع إليها في الديوان. وقيل مثل ذلك عن علماء آخرين في الماضي والحاضر. وبشكل عام، فإن غالبية الناس يودون أن يروا علة في القائل «حسنة أو سيئة» قبل النظر في قوله أو تحليل مراميه.

من نافل القول إنَّ كل نهضة في تاريخ البشرية بدأت بمناكفة من نوع ما؛ مناكفة بين أشخاص أو قوى حديثة الظهور في الساحة الاجتماعية، وأخرى مستقرة ذات نفوذ. في أول الأمر تبدو أشبه بنزاع محدود حول أفكار أو مصالح، تعود لأشخاص بعينهم. في واقع الأمر فإنَّه يصعب - في المراحل المبكرة خصوصاً - فصل الأفكار عن أشخاص الداعين إليها. وليس من الممكن أيضاً حمايتها من التصنيف القسري، أي تحديد من يستفيد من نجاحها ومن يتضرر.

مع مرور الوقت يتبيَّن للجميع، أنَّ الأشخاص القليلين الذين تمردوا وناكفوا، لم يكونوا نبتاً في صحراء، بل كانوا تعبيراً عن بواكير تحول يجري تحت السطح الخارجي للمجتمع. ومع مرور الزمن، تتحول تلك القلة إلى أمثولة ومصدر إلهام، فكأنَّها تقول لجميع الناس: انظروا... لقد فعلنا ما ظنه الجميع مستحيلاً، وتبين لكم ولنا أنه ممكن وأن كلفته محتملة.

تتحول المناكفة إلى نهضة، حين تدخل فكرتها العامة دائرة الجدل العلني ويجاهر عدد متزايد من الناس، من شرائح اجتماعية مختلفة بتبنيهم للأفكار الجديدة، ويتحدثون عنها كنمط حياة ضروري، يريدون الانتقال إليه. ونعلم أنَّ وصول المجتمع إلى هذه المرحلة يعني - بالضرورة - قيام نوع من توازن القوى في المجتمع، بين القوى الداعية للتغيير وتلك المتمسكة بالمحافظة على الإجماع القديم، أي من يسمون في عالم السياسة الإصلاحيين، ومن يسمون المحافظين.

مسار تقدم الإنسان في مجمله، يشبه هذا المسار. تجاذب وتدافع بين عوامل الاستمرار وعوامل التغيير، يقودان عادة إلى غلبة الثانية واستقرارها، ولو بعد حين. إنَّ التغيير لا يتوقف أبداً، إنَّما تختلف المجتمعات عن بعضها في سرعة الاستجابة والتكيف مع الجديد أو العكس.

قد يبدأ التغيير في مكان محدد، مثل الشمس التي تشرق في مكان، فيراها الناس في أبعد النقاط، فتولد فيهم الأمل وتبعث الحماس، ويتحول الناس بالتدريج إلى شركاء في النهضة ومساهمين في تيارها. قد تبدأ المناكفة بين التجار ثم تنتقل إلى المثقفين والساسة وغيرهم، أو تبدأ بين رجال الدين ثم تنتقل إلى غيرهم، وقد تبدأ وسط شريحة محددة كالنساء أو الشباب ثم تظهر ارتداداتها في شرائح أخرى، وهكذا.

الانتشار جزء من طبيعة الحراك الإنساني. ولذا لا يستطيع أحد أن يدعي اختصاصه بالنهضة أو يحجب ثمارها عن الآخرين. بواكير النهضة الأوروبية، تمثلت في نزعات جديدة في الأدب والفنون، وظهر تأثيرها في تصميم المدن، لا سيما المباني والجسور والقصور، وفي الفنون التشكيلية والمسرح والموسيقى. ثم انعكست على العالم الديني، فتمثلت في حركة الإصلاح الديني وما تلاها من تبلور البروتستانتية، كضد تاريخي للكاثوليكية وحليف للتغيير، حتى جاء عهد الاختراعات، وهيمنت التكنولوجيا على حياة العالم، فتحولت التقنيات الرقمية إلى محور لهذه الحركة.

باحث ومفكر عربي من المملكة العربية السعودية.