آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 1:33 ص

الوظيفة؛ عالَمٌ جديد

طه الخليفة

بعد ما يقارب 17 - 20 سنة من الدراسة الأكاديميّة، ينتقل الإنسان إلى عالمٍ جديد؛ عالم الوظيفة. يدخل الفرد منّا هذا العالم، وهو مليء بالطاقة، والطموح، والرغبة في الإنتاج والتميّز، راسِماََ في مخيّلته أحلاماً عن انعكاسات دخوله لهذا العالم على حياته، ومستقبله على كافة الأصعدة. واقعاََ، إن هذه النقلة من العالم الأكاديمي إلى العالم العملي تُعدّ نقلة كبيرة، وللأسف لا يتم إعداد الفرد لها بالشكل المناسب. بسبب قلّة الإعداد؛ كثيراً ما يتعرض الموظف في أول حياته العمليّة إلى كبوات قد تترك أثراً كبيراً في نفسيّته، ومستقبله، ليس لأنّه مقصّر، وإنما لأنه لم يتحصّل على الإعداد الصحيح.

هنا سنحاول أن نتطرّق إلى بعض الأفكار، والسلوكيّات التي نُخال أنها قد تكون عوناً لأبنائنا، وبناتنا لعبور هذه المرحلة الحرجة، التي قد تجعلهم أكثر استعداداً للتّغلّب على مصاعب الفترة الأولى من حياتهم العمليّة.

إختيار الوظيفة المناسبة:

إن الوظيفة، أو العمل الذي يؤديه الإنسان يشكّل جزءاً مهماً من حياته. فالإنسان يقضي تقريباً ثلث وقته، وربما أكثر، في مزاولة عملاََ، وقته أطول مما يقضيه الفرد مع أسرته، هذا إذا لم نحتسب وقت النوم. لذلك من المهم جداً أن يكون العمل الذي يؤديه الإنسان محبباً إليه، والبيئة التي يعمل بها، تكون بيئة إيجابيّة، وليست منفّرة.

طبعاً، يجب أن لا يتوقع أحد المثاليّة، وإلا لقضى وقته عاطلاً عن العمل، وخصوصاً إذا كانت الظروف الاقتصادية سيّئة.

المهم أيضاََ في السنوات الأولى للحياة العمليّة، أن توفّر الوظيفة فرصة للتعلّم التطبيقي في مجال التخصص، وأن يكون أفقُها واسعاََ؛ بحيث تعطي الموظّف قاعدة تطبيقيّة عريضة في مجال التخصّص. في رأي الكاتب، إن وظيفةً تحمل فرصاً تعليميّة واسعة أفضل من وظيفة تقلّ فيها الفرص التعليميّة، وإن كانت أقل أجراً نسبيّاََ.

إذاً، يجب أن يراعي الإنسان في بحثه عن الوظيفة المناسبة أن تتيح له هذه الوظيفة أكبر قدر ٍٍ من فرص التعلّم، وأن تكون طبيعة العمل محببّة، والبيئة جيّدة، حتى وإن كانت الوظيفة أقل أجراََ نسبيّاََ. وأنبّه هنا مجدداً، يجب مراعاة عامل توفّر الوظائف، فالعالم ليس مثاليّاََ.

مراحل الحياة العمليّة:

الحياة العمليّة تنقسم إلى ثلاث مراحل: التعلّم والإعداد، التطبيق والإنتاج، وأخيراً الإتقان والإبداع، وهذه المراحل متداخلة فيما بينها؛ ليست مراحل ذات بدايات ونهايات معيّنة، بحيث تنتهي واحدة وتبدأ أخرى. على سبيل المثال، يمكن للموظّف أن يكون في مرحلة التعلّم والإعداد، لكنّه وصل إلى مرحلة التطبيق والإنتاج في واحدٍ أو أكثر من متطلبات عمله. كذلك يمكن للموظف أن يقضي وقتاً طويلاً في عملٍ ما، لكنّه لا يصل إلى الإتقان والإبداع.

الأساس مرحلة التعلّم والإعداد:

هذه هي أكثر المراحل الثلاث أهمية في حياة الموظف، وخصوصاً للمنتقلين من الحياة الأكاديمية إلى الحياة العمليّة «يمكن أن يعود الإنسان من المراحل المتقدمة إلى هذه المرحلة عند تغيير وظيفته، أو مجاله العملي». أهمية هذه المرحلة تنبُع من عدة عوامل؛

1 - اكتشاف الموظف أن متطلبات العمل مختلفة جداََ عما رآه في المرحلة الأكاديميّة، وإحساسه بأنه لا يعرف الكثير، وأنه يجب أن يواصل التعلّم،

2 - حاجته أن ينتقل من التعامل مع الكتب، والدفاتر إلى التعامل مع البشر، فهنا لديه رئيس، وزملاء، وربما مُوجّه «Mentor»، يحتاج أن يتعامل، ويتعاون معهم،

3 - العمل ليس عمليّة ممنهجة، كما هو الحال في العمليّة الأكاديميّة، بل عمليّة ديناميكيّة يتفاعل فيها الموظف مع البشر من حوله، والمهام المناطة به، والموارد المتاحة لإنجاز المهام،

4 - هذه المرحلة هي الأساس والقاعدة التي سينطلق منها الموظف إلى المراحل الأخرى، فهي أساس البناء الحقيقي للمستقبل المهني، المنتِج، من حياة الإنسان.

إن أكثر هذه العوامل حساسيّة؛ هو التعامل مع البشر، فالناس دائماً مختلفون، وكل بيئة عمل لها طابعها الخاص، الذي يتشكّل عادة حسب ما تريده، وسعت إليه القيادة في الهيكل التنظيمي. يأتي الموظف الجديد عادة، وهو يتمتّع بمستوى عالٍ من الذكاء العلمي، لكنّه هنا يحتاج إلى ما يُسمى بالذكاء العاطفي، وهو المهارة في التعامل مع البشر، والذي لا يلقى الكثير من العناية في المناهج التعليميّة. لذلك، فعملية التعلّم عند تقلّد الوظيفة لها شقّان: شق تطبيقي، وشق اجتماعي، ويجب أن ينجح الموظف في الشقّين، لكي يُتم هذه المرحلة، ويستفيد منها إلى أقصى حد ممكن، ليزيد من فرص نجاحه في المراحل اللاحقة من الحياة العمليّة.

للنجاح وتحقيق الهدف من المرحلة الأولى، سأوجه كلامي هنا لمن هو بصدد البدء في المرحلة الأولى، أو لمن يخوضها، وسأذكر بعض السلوكيّات المطلوبة في مرحلة التعلّم، والإعداد:

1 - رئيسك ليس والدُك، وزملاؤك في العمل ليسوا أصحابك في الجامعة، فلا تتعامل بعفويّة «لا تطيّح الميانة». نعم، كن ودوداََ، وتعامل بلطف، واحترام، لكن لا تتعدى حدود الزمالة.

2 - تذكّر دائماً أنك صاحب الحاجة «الوظيفة، والتعلّم»، وليست المؤسسة التي تعمل بها، فالمؤسسة لديها خيارات أخرى، وهي أقوى منك.

3 - معدّلك، وذكاؤك الأكاديميّان أتيا بك إلى هذا المكان، بعد توفيق الله، لكنّهما لن يبقياك فيه، ولن يعيناك على التقّدم، إذا لم تستفد من الفرصة المتاحة، وتتعلّم، وتعمل بهمّة عالية.

4 - اِلتزم بالوقت، وبالزي المطلوب، وبكل المتطلبات الإداريّة، والتنظيميّة للمؤسسة التي تعمل بها، حتى إن كنت لا ترى أهميتها، فأنت لست صاحب القرار، بل مستأجر براتب لتؤدي عملك مع الالتزام بكل ذلك.

5 - تعلّم، تعلّم، تعلّم! هذه المرحلة هي مرحلة التعلّم، والاستكشاف. غالباً، سيكون رئيسك، أو أحد الموظفين ذو الخبرة، هو الموجّه لك في هذه الفترة، فاحرص على اتباع توجيهاته، ومراقبة سلوكه في إنجاز عمله، وطريقة تعامله مع الآخرين.

6 - لن يضع أحد الطعام في فمك، فالمسؤول سيوجهّك، وربما يريك كيف تنجَز المهام، لكنّه لن يقوم بأداء مهامّك نيابةََ عنك. اعمل حسب التوجيهات، واسأل لكي تنجِز مهامّك.

7 - حاول أن تصل مع رئيسك، أو موجّهك إلى خطة تطوير مهنيّة، تُحدد فيها المهارات المطلوب تطويرها، والمهام التي ستقوم بها لتطوير تلك المهارات، والجدول الزمني لإنجاز ذلك. في بعض المؤسسات، هذا معمولٌ به، بينما لا يتواجد في أخرى. حاول أن تشتمل خطة التطوير على التنوّع، والتنقّل في المؤسسة، للتعرف على عملك من منظورٍ أوسع.

8 - غالباً ستجد مجموعات، وتكتلات داخل المؤسسة، احرص على أن لا تكون جزءاً من ذلك، وحافظ على علاقة إيجابيّة، ومهنيّة مع الجميع.

9 - مع مرور الوقت، سيتضّح لك أن هناك نجوماً لامعة، فتعلّم من سلوكيّاتهم، وهناك ضعيفي الأداء فابتعد عنهم، وهناك أصحاب الأصوات العالية، لكنّها خاوية، ومروّجي الإشاعات فلا تشاركهم.

10 - اقرأ في مجال تخصّصك في وقتك الخاص، فهذا سيسرّع العمليّة التعليميّة، ويفتح لك آفاقاََ أوسع، قد لا تراها من منظور وظيفتك المحدود.

11 - كن جزءاً من الجمعيّات المختصّة في مجال تخصّصك، واطّلع على منشوراتها، وإذا سنحت الفرصة، اِحضر المؤتمرات، واللقاءات التي يعقدونها. فهذا سيوسّع من دائرتك المعرفيّة، والاجتماعية في مجال تخصّصك.

12 - قيّم نفسك قبل أن تُقَيّم. راجع نفسك باستمرار، واسأل نفسك؛ هل أنا مستمرٌ في التعلّم، والتطوّر. ماذا يمكن أن أفعل لإحراز المزيد. استعن بأهل الخبرة الموثوقين لديك، فهم خير معين.

13 - اقرأ، واستفد من السيَر الذاتيّة للناجحين، ففي تجارب الآخرين معلومات ثريّة، خصوصاََ من ناحية السلوك، وانتهاز الفرص، والهمة العالية، والطموح الرفيع.

14 - لا تعطِ أهميّة كبيرة للحصول على الترقيات، أو مقدار الزيادة في الأجر في هذه المرحلة. من يبني أساساََ أقوى في هذه المرحلة سيجني ثماراََ أكثر في المراحل اللاحقة من الحياة، وهذا ما يصنع الفارق.

15 - أخيراََ، تذكّر أن التعلّم يحتاج إلى تواضع، وكل ما ازداد الإنسان علماََ، وخبرة، أدرك أن هناك الكثير مما يجهله. تواضع في نفسك، ومع كل من تتعامل معهم، فمن تواضع لله رفعَه.

سنترك الحديث عن المراحل الأخرى لفرصة أخرى، لنجعل هذا المقال مخصّصاََ للمرحلة الأولى، التي تعني جيلنا الصاعد، آملين أن يكون فيما ذكرناه بعض الفائدة، وهو وجهة نظرنا التي تحتمل الخطأ، وأدعو الله لأبنائنا، وبناتنا بالتوفيق، والنجاح، وأن يكونوا خير معينٍ لأنفسهم، ومجتمعهم، والوطن، ونختم بقوله تعالى: ﴿وَ قُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى‏ عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، صدق الله العظيم.