آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 4:57 ص

العبورُ من الطريقِ الموحشة!

حسن المصطفى * صحيفة الرياض

كان كوفيد-19، تحدياً حقيقاً للبشرية، ليس على المستوى الصحي والاقتصادي وحسب، بل في معانيه الفلسفية والروحية، التي تتجاوز تبعاته المادية.

هو أكثر من مجرد ”جرح نرجسي“ أصاب الذاتَ البشرية، التي اعتادت على السرعة، الإنجاز، الاستحواذ، والقبض على الأشياء التي تريدها.

ربما الجائحة وما أنتجته من سطوةٍ خاصة، جعلت الجميع متأثرين، وصيرت فعلهم هامشاً، يدفعُ الإنسان إلى السؤال عن ماهية العقل، ومدى قدرته على التعامل مع أحداثٍ غاية في التعقيد، وغير متوقعة.

من هنا؛ لم تكن الأزمة الصحية مجرد كاشفةٍ عن خلل في منظومة السوق، والتكافل الاجتماعي، والخدمات الطبية، والاستجابة المرتبكة من كثير من الحكومات في أعرق الديموقراطيات. لكَ أن تأخذ الولايات المتحدة مثالاً، والإدارة ”الضبابية“ للأزمة، أو حتى نظيرتها في المملكة المتحدة.

رغم العورِ الكبير الذي فاجأ الملايين، والتيه الذي ضربَ هذه الأنظمةَ أمام فيروس متناهي الصغر، ودفعت ثمناً غالياً: أرواحٌ، ملياراتٌ، أزماتٌ اجتماعيةٌ وبطالة.. إلا أنها هي من يرتقبُ العالم أن تقدم له الخلاص!

العمل الجاري على اللقاحات، يتم في أروقة المختبرات والجامعات الأوروبية والأميركية، التي تسمرَ كثيرٌ من الناسِ هازئين، أو شامتين، أو متفاجئين بمدى ضعفِ عدد من منظوماتها الصحية.

ما يغفلهُ الكُسالى أن ميزة هذه الدول أنها قائمة على أساسٍ حضاريٍ متين، وأسلوب تفكير معرفي يعطي للعقل مكانته، ويدعم التجارب العلمية، والمختبرات البحثية، بلميارات الدولارات، سواء على شكل هبات مالية، أو منحٍ دراسية، أو تجهيزات تقنية، فضلاً عن الأوقاف التي تخصصها شركات وعائلات ماكنة.

”الجرحُ النرجسي“، لن يدفع هذه المجتمعات إلى الانكفاء، رغم صعود اليمين الشعبوي في أكثر من دولة. إلا أنه قبالة هذا الصعود، هنالك روح متأنسنة، يمكن أن تلاحظها جلية في الحركات المدنية التي تدعم: البيئة، المناخ، العدالة الاجتماعية، حقوق السود.. وسواها؛ وهي ليست مجرد تشكيلات ذات بعد أيديولوجي راديكالي، كما يصورها البعض ببساطة ودون فهم لأساسها الفلسفي. فهي جزء من نتاج النقاشات التي لم تتوقف يوماً حول ”الحداثة“ و”ما بعد الحداثة“، ومركزية العقل في الحضارة الغربية، وتالياً النقد الذي وجه لهذه المركزية، حيث أُعيد تشكيل المفاهيم من خلال متتاليةٍ اختبارية، قد يراها البعض عبثية، لكنها تريد أن تجترح معانيها القريبة من الذات، بل تلك التي هي جزء من الحياة ومتنها، لا مِخيالِها المتعالي والمنفصل عنها.

العقولُ الحرة، والأسئلة المُشرعةُ دون خوفٍ أو توجس، والتعليمُ الذي يحفزُ على الاستقلالية، وأن يُقذفَ بالإنسان في فضاء من الخيارات والتحديات والمغامرات، هي ما مَكنَ العقل المتقد، والروح الشجاعة، أن يبني هذه الحضارة - التي هي بالتأكيد فعلٌ تراكمي إنساني - وهو طريقها للخلاص من أعباء أزمة كوفيد-19.

الطريقُ إلى الأعالي لن يكون سهلاً: الوجع، الغيوم السوداء، الجسور المتكسرة، الدماء، والثكالى على قارعة الدرب! إنما كل ذلك لن يمنح الأرواح التواقة والعقول الصافية، إلا مزيداً من الأصرارِ على إعادة تشكيل ما تبعثر، ونظمِ ما انفرط، لأن الإنسان الحر لا يطيقُ الهزيمة!