آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 11:37 ص

عالم ما بعد «كورونا»

يوسف مكي * صحيفة الخليج الإماراتية

حملت الأيام الأخيرة، تباشير الخلاص، من وباء كورونا، بعد تعطل شبه كامل، استمر قرابة سبعة أشهر، لمختلف أوجه النشاطات الإنسانية، على مستوى العالم بأسره. وقد كان من نتائجه شيوع كساد اقتصادي غير مسبوق، منذ الأزمة الاقتصادية العالمية الكبرى، التي عصفت بالعالم، وتسببت مع عوامل أخرى، في اندلاع الحرب العالمية الثانية.

تباشير الخلاص عبر عنها الإعلان الروسي، أن شهر تشرين/ أكتوبر المقبل، سيشهد بداية الإنتاج التجاري، لمصل الوقاية من كورونا، وتوزيعه. ومن جهة أخرى، أعلنت دول عدة، من بينها بريطانيا وألمانيا وفرنسا وأمريكا، قرب التوصل، إلى مصل وقائي، وعلاجات مختلفة من الوباء.

مهرجان الفرح، طي صفحة الوباء لن يطول كثيراً، فتبعاته، ستلقي بظلالها كئيبة، على الواقع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، وبأشكال مختلفة، وستتسبب في انتشار المجاعات وزيادة الفقر بمعدلات كبيرة، بالبلدان النامية، كما سيكون من نتائجها، عودة كبيرة للنزعات القومية، وبشكل خاص في القارة الأوروبية، بما يهدد وجود الاتحاد الأوروبي. كما سينتج عنها تغير دراماتيكي واسع، في خريطة التحالفات الدولية.

لقد بدأت مؤشرات التغيير، في التحالفات، التي سادت بين الدول الرأسمالية، منذ انتصار الحلفاء بالحرب الكونية الثانية، بما في ذلك حلف الناتو. ولعل الخلاف اليوناني الفرنسي، مع تركيا، وانحياز إدارة الرئيس الأمريكي ترامب، للتدخل العسكري التركي في ليبيا، أبرز مثال على ذلك. بما يعني أننا أمام تشكل خريطة سياسية أممية جديدة، سينتج عنها بروز مفاهيم وآليات عمل مختلفة، وبالتالي، تغير في طبيعة وشكل ومهام المؤسسات الناظمة للعلاقات بين الدول.

قبل خمسة أشهر من هذا التاريخ، وكان قد مضى على انتشار الوباء، قرابة شهرين من الزمن، نشرنا في هذه الصحيفة، مقالاً حمل عنوان «كورونا» ما بعده ليس كما قبله، استشرفنا فيه بعض ملامح الانهيارات الاقتصادية التي يتسبب فيها الوباء، وكانت أسواق البورصة العالمية قد خسرت، مليارات الدولارات، خلال الشهرين الأولين من عمر الأزمة التي تسبب فيها ضمور النشاط الاقتصادي. وتوقعنا كما توقع محللون آخرون، أن يكون الكساد الراهن، أعنف من أزمة الكساد العالمية الكبرى، التي سادت عام 1928.

وخلال الفترة القصيرة التي مرت من عمر الوباء، بدأت ملامح التشكل الجديد للعلاقات الدولية، في الصراع المحتدم، بين الولايات المتحدة والصين، والذي تحول في الأيام الأخيرة، إلى حرب باردة، واحتمالات مواجهة عسكرية بين البلدين، يصعب التنبؤ، في هذه اللحظة باتجاهاتها ونتائجها. وبديهي أن تتجه الصين، إلى تعزيز علاقاتها، أكثر فأكثر، مع روسيا الاتحادية، بما يحقق التكامل الاقتصادي والعسكري، والسياسي بين البلدين، وأن تعمل على تطوير علاقاتها السياسية والاقتصادية بالقارة الأوروبية.

هناك أيضاً النزعة الاستقلالية الأوروبية، وسعيها للفكاك عن الهيمنة الأمريكية، يقابلها لا مبالاة غير مفهومة، من قبل إدارة الرئيس الأمريكي، ترامب، مع تلويح متكرر بإمكانية تقليص عدد الوجود العسكري الأمريكي بالقارة الأوروبية، إلى الحدود الدنيا. وذلك يعني انكماش حجم العمق الاستراتيجي، والمناطق الحيوية للمصالح الأمريكية، في المنطقة الأهم لصناع السياسة الأمريكية، منذ أكثر من سبعة عقود.

إن هذا التطور، غير المتوقع في السياسة الأمريكية، سيؤدي حتماً، إلى اختلال موازين القوة الدولية، وتراجع الدور السياسي والعسكري للولايات المتحدة في العالم. وربما يشجع قادة الدول الأوروبية، على الاقتراب من الشرق، طالما أن الحليف الاستراتيجي للقارة، قد تخلى عن دوره في لحظة مفصلية من التاريخ.

الانتقال نحو نظام عالمي جديد، سيكون سريعاً، لكنه لن يكون سهلاً. فمع استحالة اندلاع حروب رئيسية، بين القوى الكبرى، التي تمتلك سلاح الرعب النووي، فإن حروب الوكالة، ستكون هي البديل الممكن. فقد أثبت هذا النوع من الحروب، نجوعه، أثناء الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفييتي. لكن من الصعب الآن التنبؤ بأشكال هذه الحروب. فنحن الآن في الواقع، أمام لوحة سيريالية، ومرحلة خلط أوراق، تتغير فيها خرائط التحالفات بسرعة غير مسبوقة.

لنأخذ في هذا السياق، القضية الليبية، وهي المثال الكاريكاتوري الصارخ على خلط الأوراق، وتغير خريطة التحالفات. تقف روسيا مع فرنسا واليونان، ومعهما مصر وسوريا، والسعودية والإمارات والبحرين، إلى جانب البرلمان الليبي، برئاسة عقيلة صالح، في شرقي ليبيا، بينما تقف تركيا وأمريكا وإيران وقطر وعمان، مع حكومة الوفاق في طرابلس، برئاسة فؤاد السراج بالغرب الليبي.

تغيرات كبرى، على صعيد السياسة والاقتصاد والعلوم والمعرفة، وفي موازين القوى الدولية بدأت مؤشراتها منذ أكثر من عقد، وسرع فيها انتشار الوباء، بحاجة إلى المتابعة والرصد في أحاديث أخرى قادمة.