آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 4:33 م

مع شخصيات الفكر والأدب - المدربة نعيمة عبد الأمير آل حسين «3»

ناصر حسين المشرف *

كان من المقرر أن تبث هذه الحلقة قبل عدة أيام ولكن لظروف خارجة عن الإرادة تم التأخر فيها.

واستعرضت الحلقة السابقة شغف التعلم لدى المدربة آل حسين وتجربتها في تلك الحقبة الزمنية ومراحلها التي حاربت فيها الظروف لنيلها والحصول عليها.

الادوار المتعددة

المرحلة الابتدائية

ولازال الحديث عن المرحلة الابتدائية لتكون هذه الحلقة امتداداً للحلقة السابقة عندما انتقلت للصف الرابع الابتدائي، تلمستُ حينها أن هناك مشكلة عند بعض زميلاتي وهي تكرار حالة الرسوب عندهنّ في مادتي «الرياضيات والعلوم»، فأخذتُ على عاتقي المبادرة بمساعدتهن نتيجة لمشاعر التعاطف أولاً والقدرة على المساعدة ثانياً فعرضتُ عليهن المذاكرة معهنّ وهذه المساعدة ساهمت في تحسُّن مستواهنّ الدراسي وساعدتهنّ على النجاح، وجنَّبتهنّ العقاب إذ كان موضوع العقاب في تلك الحُقبة الزمنية أمراً شائعاً وشبه مقبول اجتماعياً وهناك مثلٌ دارج: «اخدوه لحم واعطونا وياه عظم»، أو «لكم اللحم ولنا العظم»، هكذا كان آباؤنا يخاطبون أساتذتنا في المدارس فكانت هذه الثقافة السائدة في ذلك المجتمع.

ونتيجة لهذه المساعدة اكتشفتُ في نفسي القدرة على العطاء، والقدرة على الشرح والتبسيط لإيصال المعلومة مما عزز لديّ الثقة بما اكتشفته في نفسي من المهارات في التدريس ومع مرور الأيام تجاوز الموضوع التدريس فتعددت الأدوار فأصبحت أمارس أدوار قيادية، لدرجة أن علاقتي مع زميلاتي تجاوزت مرحلة الدروس فأصبحتُ مصدر ثقة عند هؤلاء الناس فكنتُ مستودعاً لأسرارهنّ، وللبوح بمشاكلهنّ والثقة بما أقدمه لهنّ من النصح والتوجيه، والرجوع لي في الكثير من الأمور والثقة برأيي.

فكانت المحصلة لدور التدريب والتوجيه والمساندة تعزيز ثقة الناس المحيطين بي بشكل أكبر، مما جعل دائرة التدريس تتسع من خلال الطلب على دروس التقوية في العُطل الصيفية وطلب الأمهات تدريس بناتهن مواد «الرياضيات، والإملاء، والعلوم والقرآن الكريم»

ومن هذه المرحلة العمرية بدأت أمارس أدواراً مع الناس في تلك الدائرة البسيطة من زميلاتي، فتنامت إلى أن توسعت الدائرة من خلال تلك الدروس.

ومما عزز عناصر تعزيز بناء أركان الثقة لممارسة أدوار قيادية أخرى وأنا في مثل هذه المرحلة العمرية، عندما كانت معلماتي في تلك المرحلة يطلبنّ مني الإشراف على قيادة الفصل والمساعدة في بعض الأحيان لمتابعة تصحيح الواجب للطالبات، في حال كانت معلمة الفصل في إجازة الأمومة، أو في حال تعذّر تواجد معلمة بديلة، فكانت هذه الثقة متلازمة مع سيل من المديح والثناء والتشجيع والتكريم، على مستوى الفصل والمدرسة، فتشكلت إحدى أهم الركائز أو الدعائم في تعزيز عوامل الثقة إذ كانت بمثابة التغذية الراجعة، هي أشبه بنقشٍ حُفر في عقلي ووجداني، مما زادني إيماناً بأهمية ما أُقدم، وزادني يقيناً بأن الإنسان عندما يستطيع أن يقدم شيئاً لمجتمعه يعتبر خياراً رائعاً يعطيه قيمة لحياته ويجعله شخصاً أفضل من حيث زيادة الثقة بالنفس والرفع من احترام الذات والرضى عن النفس والشعور بالفخر والانتماء، فالعطاء يجعلنا على اتصال دائم مع الآخرين وهذا يزيد من مهاراتنا الاجتماعية وقدرتنا على التواصل الاجتماعي الذكي والفعّال مع محيطنا، لاسيما عندما نترك أثراً إيجابياً في حياتهم، لأن تغيير حياة الآخرين ولو بمقدار بسيط يعطي شعوراً بالأهمية مفادهُ إنّك شخصٌ مسؤولٌ يمكن الاعتماد عليه.

المرحلة المتوسطة:

في هذه المرحلة مازلت أمارس نفس الأدوار مع زميلاتي من تقديم الدروس وغيرها، إلا أنه حدث فيها بعض التحولات الكبيرة، لأنني ارتبطت فيها فأخذتْ منحى آخر، فقد أصبحت زوجة وهذا أضاف لي مسؤوليات جديدة كالاهتمام بالزوج ورعايته، وبعضاً من المسؤوليات المنزلية، وفي نهاية المرحلة المتوسطة رزقني الله بطفل مما ضاعف حجم المسؤولية بدور الأمومة.

قد يتساءل القارئ عن نهاية الفترة المتوسطة بكوني أصبحتُ «زوجةً، وأماً» في عمرٍ صغير؟!، نعم عزيزي القارئ ففي تلك المرحلة اتسم المجتمع بالزواج المبكر، فمعظم الأقران من الصديقات والزميلات قد تزوجن في عمر مبكر وبعضهنّ تركن الدراسة بعد الإنجاب، والثلة القليلة منهنّ فقط واصلن اكمال دراستهن، لأن إكمال الدراسة عند ذلك الجيل ليس بتلك الأهمية وخاصة بالنسبة للمرأة، علماً أن الزواج المبكر في حد ذاته في تلك الفترة لم يُشكل تحدياً كبيراً ولا عائقاً، حيث أن وجود العائلة الممتدة التي تحتضن أبنائها في كنفها في بداية حياتهم الزوجية تحظى بعوامل دعم ومساندة من قبل الأهل بحكم تقارب العمر الزمني بين الآباء والأبناء والقدرة على الرعاية والإشراف. «إذ انها سمة ذلك الجيل»

لذا يمكننا اعتبارها من أهم الإيجابيات لنجاح الزواج المُبكر في تلك الحُقبة الزمنية فبقاء الزوجين الصغيرين في كنف الأهل وفي أحضان الأسرة الممتدة يمكن تشبيهه بالطيور التي لم يكتمل نمو أجنحتها فبقائهم بين أحضان الأسرة لتدريبهم على المسؤوليات الزوجية والأمومة، يؤهّلهم لتحمّل المسؤوليّة مبكراً، فالزّواج مبكراً يُصّقل شخصيّة الأبناء ذكوراً وإناثاً على حدٍ سواء، ليدركوا أنّ الحياة الزّوجيّة هي منعطف في حياتهم، ليتعرّفوا فيها على أمورٍ جديدة ويكتسبوا مهارات جديدة، بشكل متدرّج ليستطيعوا الطيران والتحليق لمغادرة عش الوالدين فيما بعد وتكوين أسرة نووية.

المرحلة الثانوية:

تتسم هذه المرحلة بنوع من التحديات وصراع الأولويات منها:

«حبي للتعليم وإكمال المرحلة الجامعية والثقافة والقراءة، ومسؤولية الزوج، ومسؤولية طفلين»، خصوصاً أن ظروف عمل زوجي تتسم بالغياب لساعات طويلة عن المنزل لكونه يعمل في شركة أرامكو، وتزامن مع هذه المرحلة أيضاً انتقالنا لمنزل مستقل، لنصبح أسرة نووية، لذا وجود الداعم والمساند في رعاية الأبناء لم يكن موجوداً بحكم التباعد الجغرافي عن سكن الأهل.

ومن ضمن التحديات حينها عدم توفر حضانات لاستقبال الأطفال، ولا سائقين خاصّين كما هو متوفر في يومنا هذا، ولا عاملات منزليات لتكون عاملاً مساعداً لأهلنا في الأعباء المنزلية لكي يتفرغوا لرعاية أطفالنا، إذ أن توفرها يعتبر من أهم المعينات لهذا الجيل.

وفي نهاية المرحلة الثانوية المتسمة بتعدد الأدوار كان أمامي هذا التحدّي «التركيز على الأولاد، والرغبة في إكمال التعليم» فكان على رأس خيار الأولويات أسرتي، وإكمال التعليم الجامعي الأولية الثانية، ولمحاولة التوفيق بين هذه الأولويات فكرتُ في إكمال دراستي ولكن عن طريق الانتساب ولسوء الحظ لم أوفق بالقبول في الجامعة، فكانت الخطة البديلة «التثقيف الذاتي» باعتبارها بدايةً لانطلاقة جديدة، نتيجة حالة الاستقرار في البيت مع الأولاد، وتنّظيم أوقات نومهم مُبكّراً، وغياب الزوج في العمل، فكان الوقت المتاح لي طويلاً، فبدأتُ بتجهيز إحدى الغرف بمكتبٍ خاصٍ للقراءةِ ومكتبة، بدعمٍ وتشجيعٍ من زوجي إذ كان سخياً وذا يد بيضاء فلم أجد منه أيَّ تقصير في الجانب المادي لشراء الكُتب، علماً أن أسعارها في تلك الفترة مرتفعة جداً وبشكل مبالغ فيه وذلك عائد لنُدرتها، فكنتُ أشتري الكتب المتوفرة في البلد حيناً وأحياناً أخرى كنتُ أطلبها من الكويت ومن لبنان وانتهز أيضاً فرصة سفر الأهل أو الأصدقاء وأُوصيّهم بشراء بعض الكتب، وكذلك أثناء سفرنا كنتُ أشتري بعضها، ليتم شحنها للبلد فكانت هذه الفترة بدايةَ نُواةٍ لتأسيس مكتبة منزلية متنوعة ومتعددة العناوين، لتكون خُطوةً للبناءِ على ثقافتي السابقة، وحصيلة قراءاتي أثناء سفرنا مع والدي في الإجازات الصيفية، عندما كنا نسافر إلى العراق وإلى سوريا، وكانت تلك السفرات بالنسبة لي فرصة ذهبية للقراءة وللاطلاع على تلك الكتب في هذه الدول، فكنتُ وقتها أروي شَغَفَ حبَّ القراءة والاطلاع بشراء بعض الكتب التي كانت موجودة بوفرة إذ كانت تمتد على مساحة كبيرة وعلى مد البصر بطول ذلك الشارع الذي يبدأ من البيت الذي نسكن فيه إلى نهاية الشارع وبأسعار رمزية، وكأنها لوحة فُسيفُسائية أشبه بباقات ورود غاية الروعة والجمال، وقد كنتُ أشتري كل يوم كتاباً وأسهر طوال الليل لقراءته ثم أُعيده للبائع في اليوم الثاني وأشتري غيره وهكذا... فتعجب البائع من تصرفي مما دفعه الفضول للسؤال عن سبب هذا التصرف؟! فأخبرته أننا لا نستطيع أن نأخذها معنا للبلد، وبعد مرور أسبوع وأنا على هذا الحال تعاطف معي فسمح لي باستعارة الكتاب الذي أريد قراءته ثم إرجاعه، بشرط المحافظة عليه وإلا سأدفع قيمته فكنتُ في غاية الامتنان لذلك الإنسان الطيّب، وهذا الموقف مازال محفوراً في ذاكرتي إلى الآن، وما تدوينه بين هذه السطور إلا لأنه جزءٌ جميلٌ من تجربتي كصورةٍ ماثلةٍ أمامَ عيني وفي وجداني.

إذ كنتُ حينها أقرأ كل ما تقع عليه عيني من الكتب المتنوعة العناوين، فأسهر على قراءتها حتى الفجر لأنجز قراءتها، فلقد كنتُ في حالةِ سباقٍ مع الزمن، خوفاً من تصرُّم الليالي والأيام وانتهائها بسرعة البرق والعودة للوطن، لأن الكتب في تلك الحقبة الزمنية شحيحة جداً بالإضافة إلى أننا لا نستطيع اقتنائها والعودة بها، استجابة لتوصيات الوالد «رحمه الله» بعدم اقتناء أيّ كتاب فقد كان عنده نوعاً من التحفظ على اقتنائها أو اصطحابها معنا خوفاً من المساءلة عن مضمونها أومحتواها فقد يكون ممنوعاً أو غير مسموح به، علماً بأن أسعارها كانت «زهيدة» جداً لا تقاوم ومغرية.

وفي المقابل لا أنسى زميلات القسم الأدبي عندما كنتُ أُوصيّهن بالمحافظة على كتب علم الاجتماع لقراءتها في الإجازات، فهذه إحدى الروافد نتيجةً لشح الكتب ونُدرتها.

ومما يزيد روعة هذه التأملات لنمط القراءة في الماضي وشغف التعلم، هو مقاربتها مع طقوس القراءة والكتابة في مكتبتي، فاستحضار سحر وجمال أيقونات تلك الطقوس وتلازمها الدائم مع هدوء الليل وسكونه، ورائحة أوراق الكتب وسطورها، تناغماً وانسجاماً مع رائحة القهوة المنعشة للعقل، كرفيقة للكتاب وإن حاولتْ بعضاً من أكواب الشاي أحياناً مزاحمتها، فمازالت عادات القراءة عندي وطقوسها مرتبطة بهذه الصورة.

فعندما أدخل مكتبي أو «صومعتي» أُبحرُ في ذلك العالم وفضائهِ المفتوح، لاستثمار هدوء الليل وسحره في القراءة والكتابة، فكنتُ اقضي الشطّر الأكبر منه بما يقارب «سبع إلى ثمان ساعات» ليلياً وبشكل دائم إذ كان جدولي صارماً، وأستمر في القراءة فأنسى الوقت وأنسى نفسي ولا أنتبه إلا على صوت آذان الفجر، فكنتُ أعتبرُ نداء المؤذن حينما يقول: «حيا على الصلاةِ، حيا على الفلاحِ، حيا على خيرِ العمل» بأنه نداءٌ لي بالانتهاء من نافلة الليل ليكون ختامها مسك بأداء فريضة صلاة الفجر.

واستمر الحال على ما هو عليه إلى أن جاء ذلك الطوفان الهادر في نهايةِ السبعينيات وبدايةِ الثمانينيات، ففي هذه الحقبة الزمنية تحددت الرسالة والرؤيا والأهداف والأدوار، لكونها فترة اتسمت بالعديد من الأحداث، وهذا سيكون محور حديثنا في الحلقة القادمة بإذن الله تعالى.