آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 2:01 م

العلم والحيرة

الدكتور توفيق السيف * صحيفة الشرق الأوسط

تتعلَّق الأفكار التالية بحالة مغفلة وربما غير مستساغة، مع أنَّها تشكل - في رأيي - جوهر مفهوم التعليم وسر المعرفة. ولذا سأغامر بالادعاء بأن قبولها أو رفضها يحدد طبيعة العلاقة المفترضة بين المعلم والمتعلم. دعني اسمي هذه الحالة «الاطمئنان أو الحيرة».

التعريف المبسط للاطمئنان ينسبه للشعور المتولد في نفس الإنسان، حين ينجح في حل مشكلة، أو يجيب عن سؤال يشغل ذهنه. أما الحيرة، فهي حالة الإنسان الذي يقف أمام المشكلة عاجزاً عن حلها، وغير عارف بالطريق الذي يوصله إلى الجواب. عندئذ يسيطر السؤال على ذهنه فيشغله عن كل شيء. ولعلك سمعت يوماً من يقول بأنَّ انشغاله الذهني قد سبب له الأرق. وربما ترى شخصاً ساهماً، منشغلاً عن كل ما يدور حوله، فهو معك بجسده، لكن عقله وقلبه في مكان بعيد. فهذه أمثلة عن الحيرة.

ما دمنا بدأنا بالحديث عن التعليم، فالمؤكد أنَّ أذهانكم مشغولة الآن بسؤال: هل يستهدف التعليم توفير الاطمئنان في نفس التلميذ أم إثارة حيرته؟

قبل الجواب، يهمني استبعاد التقنيات البسيطة، التي يقع الناس في خلط بينها وبين العلم. حين تشتري ثلاجة مثلاً، يطلب منك صانعها أن تقرأ دليل الاستعمال، الذي يحوي معلومات تقنية ابتدائية، لكن هذا الدليل لا يخبرك عن هندسة التبريد أو المفاهيم العلمية التي بنيت على ضوئها الثلاجة. ولو أخبرك بهذه التفاصيل لأوقعك في حيرة شديدة. ولهذا؛ ينصحون عادة بجعل دليل الاستعمال مصوراً، يحوي الكثير من الأشكال والألوان والقليل من الكلام، وأن يكون بسيطاً «كي لا يشوش ذهن المستعمل».

أما الطالب الذي يدرس هندسة التبريد في الجامعة، فإنَّه لا يقرأ دليل استعمال الثلاجة، بل يبحث عن مصادر مليئة بالتفاصيل والشروح الفنية الدقيقة والمعادلات... إلخ. بعبارة أخرى، فإنَّ المهندس يبحث عن العلم، مع أنه كثير التفاصيل، وقد يؤدي إلى تشويش، بخلاف مستعمل الثلاجة الذي لم يكن بصدد البحث عن العلم أصلاً. المقصود إذن ليس «دليل الاستعمال» أو التقنيات الابتدائية.

العلم لا يؤدي للاطمئنان ولا اليقين. يتولد العلم من السؤال والشك، وكلما ازداد العلم، ازداد معه التشويش والشك الذي يثيره. ثم إنَّ العلم لا يعطيك جواباً نهائياً، بل يقودك من سؤال أولي إلى سؤال متقدم أو شك مضاعف. من يبحث عن الاطمئنان واليقين، فلن يجده في العلم. والمقصود هنا هو البحث العلمي الذي غرضه التوصل إلى أجوبة أو حقائق جديدة، أو نقد أجوبة قائمة.

* هل ينبغي لنا أن نجعل هذا عمود الخيمة في تعليم الأطفال والشباب؟

- الجواب نعم.

أعلم أنَّ كثيراً من الناس يريدون باباً موارباً. فيقولون مثلاً: دعنا نشحن عقول أطفال الابتدائية والمتوسطة بالمعلومات الجاهزة، فإذا انضموا إلى الثانوية والجامعة، نقلناهم إلى مرحلة البحث والتفكير؛ لأنهم إذ ذاك ناضجون يحتملون الشك والحيرة.

لكن هذا وعد مستحيل. إذا بدأ تلميذ الابتدائية بالركض وراء الأسئلة، فسوف يواصل وينضج في المراحل التالية. وإذا بدأ بنظام «تكديس البيانات في الخزنة» أي التلقين، فلن يستريح لأي طريقة بديلة. لقد جربت شخصياً الطريقة المعتادة في حلقات العلم الشرعي، وهي تدمج بين الطريقتين: السعي لتوليد الاطمئنان + البحث عن فكرة جديدة، لكني وجدت أنَّ الطريقة الأولى هي التي ستهيمن في الأحوال كافة، إلا القليل النادر. ولهذا فلن يفيدنا التفكير في أبواب مواربة أو طرق مشتركة أو حلول وسط.

باحث ومفكر عربي من المملكة العربية السعودية.