آخر تحديث: 20 / 4 / 2024م - 9:52 ص

البُعدُ والعزلة وجهان لزمن واحد

ليلى الزاهر *

لعلّ أيدولوجية ابن خلدون في مقدمته الشهيرة تجعلنا نتَقَلَّدَ رأيه ونؤمن بأن البشر يقطنون في منظومة واحدة كل فرد يُكمل الآخر.

حيث يقول ابن خلدون: «الإنسانُ اجتماعيٌّ بطبعه، فُطر على العيش مع الجماعة والتعامل مع الآخرين» وربما رَكَبَ ابن خلدون موجةَ أرسطو الفكريّة التي نصّت على اجتماعية الإنسان.

وبالرغم من وجود فارق زمني شاسع بين ابن خلدون وأرسطو حيث كان مولد أرسطو في سنة 384 قبل الميلاد بينما ولد ابن خلدون سنة 732بعدالهجرة إلا أن أفكارهما التقت في مجرى واحد. وقد بلغ كلّ منهما شأنا عظيما في البحث الإنساني وهيمنة الاجتماع على الإنسان ومع تجدد الأبحاث في العلوم الإنسانية أحدثت العصور المُتتابعة بعض التغييرات الدراماتيكية على نظريات ابن خلدون وأرسطو فأصبح الإنسان خلف الستار يأنس بفنجان قهوته وكتبه وأبحاثه في زمن المعلومة المقدّسة فلا يظهر للناس إلا بعد الارتواء من حاجته منها.

ومن رحم العزلة يتمخّض الإبداع الإنساني إذ طرحت العزلة روائع عديدة تروي حَذَاقَة الابتكارات وبديع صُنْع الأفكار.

فكم من المسابقات الأدبية التي أقامتها دور النشر العربية والمؤسسات الثقافية ليثروا العزلة الكورونية الجاثمة على صدورنا منذ شهور!

كما كان لبعض دور القرآن الآثر الملحوظ في تخفيف العناء الناجم عن الأحداث السلبية التي أحدثتها جائحة كورونا بتطبيقاتهم القرآنية، ودوراتهم التدريبية الثريّة عن طريق برنامج زوم.

فأصبح للعزلة في زمننا هذا رونقا أضفى على صاحبه رداءً من الحكمة والمعرفة كما قال وهيب ابن الورد‏. ‏بلغنا أن الحكمة عشرة أجزاء تسعة منها في الصمت والعاشر في عزلة الناس‏. ‏

لذلك فأن الكثير ممن ابتلاهم الله بهذا الوباء وجرت عليهم أقدار الله بأعراض كورونا الخفيفة حقّ لهم أن يقضوها في حمد الله وشكره أن أعطاهم الفرصة ليقضوا بضع أيام بين يدي الله تعالى بالأمس كنت في حديث شائق مع صديقتي التي أصابها الوباء سألتها عن الأثر النفسي والجسدي الذي طرحه هذا الوباء في طريقها لكنها نقلتني من حالة الخوف عليها إلى حالة من السّكِينة والاطمئنان. وكشفتْ لي مواهبها المتألقة في العزل الصحي وهي تخوض حربها مع كورونا.

أعجبني حديثها وحسن ظنها بربالعالمين، قرأت كلماتها بصوتٍ يتسلل بين الحروف طاقةً إيمانية تهبك القوة والسعادة، سمعت صوتها من خلال حديثها الخفي وهي تقول: أنا بخير، ولا رأيتُ إلا جميلا.

في كلّ يوم لي صولة وجولة مع الآلام التي أشعرُ بها تلفُّ جسدي، أفتحُ نافذة غرفتي واجعل خيوط الشمس تدخل أعماقي تساندني في العودة مجددا للحياة، تطرد بعض أوجاعي المؤلمة.

ليس أمامي ياصديقتي مآدب عامرة ولاخدم وحشم يأتمرون بأمري، أمامي فقط سيوف المرض تهاجمني فأقوى على مبارزتها حينا وأقعّ حينا آخر.

انتظمتُ في شرب أدويتي، وهجرتُ اليأس الذي يزورني أحيانا؛ لأن الله تعالى يمدني بقوة في مواجهة كورونا، أصبحت غرفتي حديقة عامرة بأصناف الكتب الجميلة ولأنني قارئة نَهِمة بارزت المرض بحفظ شيء من آيات كتاب الله تعالى، وسهرتُ أقطف لذة المناجاة مع الله أن يزول هذا الوباء عني وعن أمة محمد ﷺ.

تذكرت أن العزلة مُحببة عند الكثير من الأدباء والباحثين في سرائهم وضرائهم تذكرت محمود درويش وهو يقول: «أن تكون قادرًا على أن تكون وحيدًا هو تربية ذاتيَّة»

قرأت عن الكاتب المسرحي وليام شكسبير الذي فقد ابنه حين اجتاح وباء الطاعون مدينته لندن وآثر العزلة فكان نِتاجها مسرحيته التراجيدية الشهيرة «مأساة هاملت».

أما الألماني نيتشه فقد ورد إلى ذهني مقولته:«إن العزلة ضرورية لاتساع الذات»

وألهمني سيدنا محمد ﷺ في أجمل عزلة له في غاره فقد تهيأ لحمل أسمى رسالة أنقذت البشرية وفتحت عهودا بيضاء مُشرقة أضاءت العوالم من أقصى الشرق لغربه. «ثم حُبِبَ إليهِ الخَلاءُ، فكانَ يلْحَقُ بغارِ حِرَاءٍ، فيَتَحَنَّثُ فيهِ قالَ: والتَّحَنُّثُ التَّعَبُّدُ الليالِيَ ذواتِ العددِ، قبْلَ أن يَرجِعَ إلى أهلِهِ، ويَتَزَوَّدُ لذَلِكَ، ثمَّ يَرْجِعُ إلى خَدِيجَةَ، فيَتَزَوَّدُ بمثْلِهَ»

إنها الحياة ياصديقتي لامجال فيها لفراغ يعْتملُنا ولا لألم يقتنصنا، ولنا معها لقاءات سعيدة وآخرى حزينة، لكن في خضمها لابد أن ننسى كلّ أثر للحزن والخوف والقلق.

لم أجعل كورونا محور حياتي وإنما جعلته حدثًا ثانويّا وسط أحداث حياتي الرئيسية فأنا أتابع أولادي في دراستهم وتنقلاتهم اليومية، اطمأن على أحوالهم عن بعد وأسمع أصواتهم وهم يلعبون ويستذكرون دروسهم.

وبعد أيام انكمش كورونا على نفسه، وشاع خبر انهزامه عن ساحتي ودّعته وأنا أسأل الله ألا يظهر في ساحتي مرة أخرى وأن يغادرنا دون عودة.

هكذا قضت صديقتي فترة اعتزالها عن ذويها وعن الناس في مخدعها الصحي.

بقي أن أُشير إلى أمرٍ مهم وهو أن العزلة تتخذ طريقا يجب محاربته إذا تحولت لحالة مرضية يرفض صاحبها الاجتماع بالآخرين، ويضع نفسه في دائرة مغلقة من الإسقاطات النفسية مما يستلزم الموضوع تدخّلا طبيّا وعلاجا سريعا حتى لاتسوء حالة المريض. وربما كانت العزلة ردة فعل لسلوك نتج من بعض المؤثراتالخارجية أو الداخلية السلبية كالتعرض للتنمر والعنف والحزن الشديد نتيجة لموت بعض الأقرباء أوالأصدقاء فينتهي المطاف بالمعتزل لإقامة جبريّة يفرضها على نفسه بين جدران منزله. بيْد أنّ الانفتاح الاجتماعي على الناس يدل على مؤشرات نفسية صحيّة تدلُّ دلالة واضحة على أن الفرد والمجتمع لهما ساعة ميلاد واحدة.