آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 5:41 م

العطاء بكافة أشكاله

ورد عن الإمام الصادق : يأتي على الناس زمان من سأل الناس عاش ومن سكت مات، قلت: فما أصنع إنّ أدركت ذلك الزمان؟ قال: تعينهم بما عندك، فإن لم تجد فبجاهك» «الكافي ج 4 ص 46».

يحكي لنا الإمام الصادق عن أحوال الناس في آخر الزمان والذي يرفعون فيه عن أنفسهم القيم والتوجيهات الإسلامية التي تنظم علاقاتهم والأسس المبنية عليها، تلك الإرشادات التي تعزز روح المحبة والاحترام والتعاون بين أفراد المجتمع، والدعوة إلى نبذ كل معاول الهدم للعلاقات المتينة والتي تبث الكراهية والأحقاد والتبلد الوجداني، تجاه حاجات الآخرين وغلبة الأنانية والنفعية على النفس، فتتجاهل حينئذ حاجات وآلام الناس من حولنا.

مظلة التكافل والتكاتف الاجتماعي هي تلك الومضة الحضارية المشرقة التي تبني المجتمع على أسس التلاحم والمساندة، والتي يشعر من خلالها الفرد بمشاعر الود والأمان الأسري الذي يسعفه حينما تداهمه المشاكل والهموم وعوز الاحتياج، فلا يمكن للإنسان أن يحيا الفردية والعزلة والانزواء عن الآخرين، إذ أنه خلاف فطرة البشر المبنية على الأنس والارتياح للعيشة في الوسط الاجتماعي، كما أنه يحقق له الكمال في الجانب الاجتماعي في شخصيته من خلال تنمية روح العطاء والبذل، فيشعر بالسعادة من خلال رفع الأعباء عن المحتاجين بما أمكنه، وتخفيف الهموم وإعادة البسمة للوجوه البائسة.

ويحذر الإمام من ذلك المقطع الزمني الذي يتلاعب فيه بإعدادات القيم في الأفراد، فتعلو روح الأنانية والانتهازية والتبلد الوجداني تجاه آلام الغير، فحينها يضيع الأفراد الضعفاء في المجتمع حيث يفتقدون اليد التي تبلسم آلامهم، مما يفاقم من مشكلة العوز والاحتياج واتساع رقعتها وتفشيها، مما يحدث خللا مجتمعيا ينذر بمختلف المخاطر والأزمات التي تعصف بأفراده.

فما الذي يدفع الفرد لتجاهل حاجات الآخرين من حوله وكأن صمما أصاب أذنيه وعمى رمى عينيه؟

التربية الأسرية والثقافة التي يتلقاها المرء تشكل البدايات والأسس في شخصيته، فمتى ما رأى روح العطاء تسود أسرته ويهرعون لرفع حاجة الغير ودفع الضغوط الحياتية عليه، فإن ذلك يزرع في شخصيته سلوك الكرم والشعور الوجداني بحاجة الغير، أما إذا تناهى لسمعه كلمات تدعو إلى عدم الاهتمام بأحوال الجيران والأرحام، ورأى بعينه مواقف الشح والأنانية فبلا شك سيتربى على قلة العطاء وترك السعي في قضاء حوائج الناس.

كما أن الثقافة السائدة اليوم تغيرت في معالمها عند البعض وعلت نبرة النفعية والاقتصار في البحث والسعي على المصالح الضيقة، وهذا الواقع السيء يحتاج إلى بث ثقافة العطاء وربطها بالوازع الديني والأخلاقي والاجتماعي في المؤسسات التعليمية ودور العبادة.

وأما ماهية الناس في آخر الزمان فتشي عن بعد عن الإنسانية المعطاءة وطغيان لحب الذات وتنكر للقيم النبيلة، ومن ذلك تجاهل حاجات الفقير وافتقاده للأنفس المعطاءة التي تسانده وتخفف عنه آلام الاعتياز، والمحتاجون حينئذ على قسمين: فهناك من يبذل ماء وجهه ويرفع غطاء التعفف وجلباب الحياء ويطلب ما يسد رمقه وعياله من الناس، وهذا ما يعرضه للامتهان من البعض فيمنون عليه بالعطاء، وآخرون يطلبون الأضواء الإعلامية والشهرة والمكانة بين الناس على حسابه، فيحصل على قوت معيشته والحاجات الضرورية ولكن في مقابل ذلك يسأل الناس ويلح عليهم حتى يحصل على شيء منهم.

والقسم الآخر هو من يحافظ على كرامته ويتجنب الحديث مع من حوله عما يعاني منه وهو يرى منهم التجاهل لوضعه الاقتصادي المزري، ومثل هؤلاء المتعففين تتضخم معاناتهم وتسوء أحوالهم حتى يحيوا حياة من يحصل على قوت من لا يموت.

وتوجيه الإمام الصادق لنا هو التمسك بحجزة العطاء المادي مهما كان بسيطا حتى تشرق البسمة على الوجوه وتبث الطمأنينة في قلوب المحتاجين، وإن لم يتمكن المرء من العطاء المادي فليسارع إلى العطاء الآخر من خلال مكانته ووجاهته بين الوسط الاجتماعي؛ ليحثهم على الاهتمام ورعاية الفقراء وتلمس حاجاتهم، فإن الدال على الخير كفاعله فيشارك المنفقين في ثواب ما يبذلونه.