آخر تحديث: 18 / 4 / 2024م - 1:06 ص

«علي ونينو» وحرب أخرى في القوقاز!

ميرزا الخويلدي * صحيفة الشرق الأوسط

في عام 1988 قرأتُ رواية «علي ونينو»، رواية تأسر قارئها وتمسك بأهدابه حتى النهاية. موجٌ صاخبٌ من الحب والعشق والكفاح المرير... رواية ملحمية فعلاً في رومانسيتها، وفي الصراعات العميقة داخلها بين الثقافات والأديان، والهويات، بين قصة عشق جامح لفتاة حدّ الحرب، وعشق آخر للوطن حدّ الموت...!

لم نكن نعرف شيئاً عن القوقاز، كنز الحضارة الإنسانية وحاضنة التنوع البشري في اللغات والثقافات والديانات والأعراق الإنسانية، المنطقة التي يمكنها أن تصبح متحفاً للتنوع أو منجماً للصراعات المتناقضة... في أذربيجان ولد الفتى «علي خان» بداية القرن العشرين، وهو يتحدر من عائلة مسلمة كانوا يتوارثون السيادة على أجزاء من أذربيجان، يلتقي في المدرسة الروسية التي كان يقصدها بالفتاة التي ستأخذ لبّه ويسطران معاً أجمل قصة عشق عرفها القوقاز... «نينو كيبياني» الأميرة الجورجية التي تربّت على التقاليد المسيحية الأرثوذكسية.

تسير الرواية بخفة ورشاقة وتشويق بين بيئات متنوعة ومختلفة كل منها توفر عوالم إضافية، تثري بتفاصيلها الجغرافية ونمط علاقاتها المتشابكة، والثقافات المتنوعة، هذه الرواية: أولاها، مدينة باكو التي شهدت معظم فصول العشق بين علي ونينو، وكانت بداية القرن الماضي منطقة في مهب الصراعات بين الأتراك والإيرانيين والروس، فقد عرفت أذربيجان الاستقلال لفترة بعد الحرب العالمية الأولى «1918»، ولكن ثروتها النفطية سرعان ما فتحت شهية الروس، قال لينين في عام 1920 إن روسيا السوفياتية «لا تستطيع البقاء على قيد الحياة بدون نفط باكو».

أجواء الحرب الملتهبة أشعلت أجواء الرواية، وأعطت المعنى الفلسفي للحبّ الممتزج بالثورة والكرامة الإنسانية، كانت نينو كما عشيقها علي، ينتميان إلى ثقافة الأرض التي تواجه جحافل الغزاة، الحبّ بينهما كان تعبيراً عن الرغبة لدى الجيل في العبور فوق صراع الهويات المحتدم.

البيئة الأخرى كانت داغستان التي هرب إليها علي، بعد أن ثار لكرامته وقتل غريمه في حبّ نينو الذي حاول خطفها بسيارته، بعد أن لاحقه فوق حصان كفارس نبيل... ثم يهرب إلى داغستان، وفيها يعيش حياة بدائية مسكونة بالتفاصيل، إلى أن لحقت به نينو هناك وتوّجا قصة حبهما بالزواج.

البيئة الثالثة التي أثرت الرواية هي إيران، في أزهى عصورها الأرستقراطية وعلاقاتها بالغرب، رغم ذلك كانت المرأة تعيش فيما يشبه «الحرملك» العثماني، وهو ما نبذته نينو وثارت عليه. وقررا العودة إلى باكو رغم المخاطر، وفيها تفّجر أول خلاف بين الحبيبين على أساس التناقض بين المفاهيم والأعراف والتقاليد والعادات... بين الرؤية الشرقية المحافظة والروح الغربية المنفتحة... حين شاهدت حبيبها يمارس طقوساً دينية في «عاشوراء» شكل لها صدمة عنيفة.

والمكان الرابع هو أوروبا التي انتقل علي إليها ملحقاً في سفارة بلاده، هناك أيضاً يمتحن الشاب الشرقي الذي تربى على قيم دينية وقبلية، حين يرى زوجته ترقص مع أحد الضباط الأجانب... الغيرة ونداء الواجب دفعاه للعودة نحو باكو... كانت الآليات العسكرية الروسية تشق طريقها نحو بلاده لغزوها مجدداً... وهناك يرسم علي المشهد الأخير للرواية... يقف مع ثلة من المقاتلين الشجعان لصد الغزو الروسي لبلادهم... كان عليه أن يسير وحيداً نحو الجسر ويطلق آخر ما تبقى في مسدسه الحربي نحو الدبابات ويسقط شهيداً.

في جورجيا، وعلى شاطئ مدينة باتومي لؤلؤة البحر الأسود، ينتصب تمثال متحرك مصنوع من الأسلاك المعدنية على شكل حلقات مفرغة، تتشابك وتشكل جسدي رجل وامرأة من دون ملامح واضحة... وعند غروب الشمس يدور العاشقان نحو بعضهما كأنهما يؤديان رقصة الوداع، ثم يحتضن كل واحد منهما الآخر ويتداخلان مع بعضهما ليشكلا كتلة واحدة... على أعتاب ذلك التمثال، سقطت كل الصراعات والحروب والهويات والخلافات... وبقي «علي ونينو» شاهدين على أن الحبّ أقوى من الصراعات والكراهيات والحروب العبثية.