آخر تحديث: 25 / 4 / 2024م - 1:22 م

وداعا أسطورة كرة القدم «11»

عبد العظيم شلي

حين هممت بقطع تذكرة الدخول للتفرج على نادي برشلونة وملعبه الشهير ”كامب نو - Camp Nou -“، تفاجأت من ارتفاع قيمة التذكرة، فسألت الفتاة الحسناء من خلال الشباك، تذكرتكم أعلى من نادي ريال مدريد والتي قيمتها ب 20 يورو، أما أنتم ب 25 يورو لماذا هذا التفاوت في السعر؟ أجابتني بابتسامة دلع ممزوجة بالترحاب، ”هم ليس عندهم ميسي“!، قلت لها وهل سأرى ميسي يجري تمرينا وقت الصباح؟، حسنا إذا أردت انتظر حتى المساء سترى ميسي وجميع أفراد الفريق يمارسون تدريبهم اليومي، من الصعب، أيام رحلتي معدودة وأريد أن استثمر الوقت لرؤية مرافق النادي ومعالم المدينة، أهلا بك. كلمات ترحيبية تزف الداخلين بحفاوة بالغة، صادرة من فرق تنظيمية شابة يرتدون أزياء ”سبورتيه“، صبية وصبايا وبكل لطف وذوق يستقبلون الزوار ويوجهونهم نحو مسارات التنقل، لغات وأنفاس، وسحنات وجوه من كل لون، زحام وشوق يمتلئ العيون.

ألقيت نظرات على فناء النادي الخارجي، الممتلئ بالأوتوبيسات القادمة والمغادرة، يصعد منها أناس وأخرى تنزل بشوق ولهفة، يتقدمهم مرشدون سياحيون، وبأعلى أصواتهم يوجهون صغارا وكبارا من جنسيات مختلفة، وآخرين أتوا من أقاليم أسبانية عدة، معلمون يقودون طلاب وطالبات مدارس، يسيرون في صفوف شبه منتظمة، يرتدون لباس النادي ويهزون بأعلامه ويهتفون بفرح غامر ”برسا برسا برسا“، حماس براءة وتحايا عفوية حبا للكيان.

كل هذا الحضور المتنوع من أجل ماذا؟، هل فقط لرؤية مبنى النادي والتقاط صور للملعب والسلام، أم الأمر أبعد من رؤية الكامب نو الشهير، إنه توق لامتناهي لمعاينة كيان حي تستشعر كأنه من لحم ودم، سمعته طارت نحوالافاق، ووصلت في كل مكان من أقاصي الدنيا، صنف أحد أندية الكبار على مستوى العالم، ناد عابر للقارات، يمتلك خزائن تاريخ وثروة رياضة ومال وصحافة وإعلام.

حينما وصلت للمقصورة الرئيسية للملعب الأنيق، نظرت يمينا وشمالا وفي كل الاتجاهات بفرحة طفل، دهشت من جمال منظر المدرجات المكونة من 6 طبقات، مطلية في الأسفل والأعلى بالأحمر وفي الوسط بالأزرق، وهو شعار النادي، ظلال ونور شمس تلاعب الأرضية بعشبها الأخضر الزاهي والمقسم بين غامق وفاتح، يرتوي رشا أوتوماتيكيا بالماء العذب، منظر يخلب البصر وصدى أصوات مسجلة لجماهير من مباريات سابقة ترن بين جنبات الملعب الخالي إلا من السواح استأذنت من أحد الزوار وطلبت منه ليصورني بكاميرا جوالي، سجلت فيديو قصير، وبعثته للأصحاب، قلت فيه كلاما مرتجلا ضمن أجواء باردة: ”أهلا وسهلا بكل الأحبة، أهلا وسهلا بمحبي نادي برشلونة، هذا النادي العريق الكبير، أحيكم من ملعب الكامب نو في يوم 4 يناير 2019، هذا الملعب شهد الكثير من الأفراح، الكثير من الانتصارات، هنا تألق ميسي ورفاقه، على مدرجات هذا الملعب احتشدت الجماهير، وفي هذا المكان تغنت وأطربت الملايين، طريقة لعب برشلونة، هي مختلفة عن كل الأندية، هو لعب الفن، ولعب الإبهار، لعب المتعة، ألف تحية لكم جميعا يا محبي برشلونة من هذا الملعب، ملعب الكامب نو أهلا بكم جميعا“، ثم جلست على إحدى الكراسي استرجع دفء أمجاد الملعب واقلب بعضا مما لدي من معلومات وما خزنته الذاكرة، استرجعتها ونفثت أنفاسا بعد أنفاس، يا هي أيام شهدها ”كامب نو ومعناه بالكتالونية“ الملعب الجديد"، والذي افتتح سنة 1958 أي قبل ميلادي بثلاث سنوات إلا قليلا، أول ما رأيت الملعب كصورة متحركة في المباراة الافتتاحية لكأس العالم 82 وهي أول إطلالة مونديالية للفتى الذهبي مع منتخب بلاده أمام بلجيكا، وعرفت حينها من معلق المباراة بأن الملعب يتسع لـ 90,000 متفرج، وفيما بعد شهدت المدرجات اتساعا للأعلى، وأصبح إجمالي المقاعد تتسع حاليا لـ 100,000 متفرج، مما جعله أكبر ملعب في أوروبا.

انظر للمرمى بلا حراس ودون لاعبين، وأرسل نظراتي السارحة نحو المستطيل الأخضر وأتخيل زمن مضى، هنا جري ولعب مارادونا والتقطت له صور بشعره الأشعث الذي يغطي جبهته وأذنيه، هنا صال وجال، وتغنت الجماهير بفنه وإبداعاته.

وكم أخذني الفضول باستفسار تائه، في أي مكان حدث ذاك الشجار العنيف بينه وبين رئيس النادي؟ توقفت عن الشرود وغادرت المدرجات نزولا وإذا بي أرتمي أسفلها لعالم آخر، لدنيا عجيبة، وجدت نفسي في بطون التاريخ ارتد لعقود قرن مضى عبر متحف النادي المبهر.

حشود تتجول بين أجنحة وأقسام، وترى دواليب زجاجية تصطف على أرففها كؤوس تبرق بعلامات النصر، وميداليات متدلية ودروع فضة، وأعلام تذكارية، مجاميع لصور شتى، تبرق بانتصارات الأمس، ومشاهد لمسابقات عن جملة ألعاب مختلفة، عرض صور بالأسود والأبيض أخذتني متعة لعوالم أزمنة موثقة بأحداث مفرحة ومرة، زوار تغوص في كنه الاحتفالات المحفوظة صوتا وصورة بشاشات عرض مختلفة، يتأملون في وجوه لاعبين اعتزلوا وآخرين أصبحوا تحت الثرى، وبقي خيالهم يبوح بالحكايات والأسرار، زوار تطيل النظر وتدقق حول معروضات موزعة على طاولات بأحجام متفاوتة، مغطى بالزجاج، مضاء بالأنوار وكم هائل من التعريفات والتواريخ، عيون تتفرس من مختلف الأعمار ومن عديد البلدان وتختلط الضحكات برطانة تعدد اللغات.

ثمة صور قديمة لا تغيب عن البال حجمها بمساحة جدراية لمباراة زمن العشرينيات تشير إلى أول بطولة للدوري الأسباني أقيمت سنة 1928 وفاز في موسمها الأول فريق برشلونة.

وصور شخصية تترجم أوجاع زمن الحرب الأهلية وعن جرم ”فرانكو“ بقتل أحد رؤساء النادي، وآخر مات منتحرا خوفا من الاقتصاص، صورة شخصية لرئيس نصب بالقوة ليكون ورقة طيعة ينفذ أوامر السلطة في مدريد زمن العشرينيات، حروف وصور تفوح منها رواح السياسة العفنة، تزكم الأنوف وتقشعر الأبدان.

كم كرة سكنت الشباك ظلما فتزينت الأكتاف بمزيد من نياشين الادعاء.

متحف النادي يلون الحواس بسواد وبياض، ويرميها بمشاعر فرح وألوان ذات بهجة.

متعة الفرجة تزداد مع رؤية قمصان لاعبين ذات أشكال وأنواع وجمهور يرتدي القبعات، و”شورتات“ وقورة تصل تحت الركبة، عينات من قمصان لاعبين مميزين رحلوا، وبقيت ملابسهم الرياضية وأحذيتهم البالية شاهد على أزمنة خلت.

كل المعروضات مذيلة بشروحات مختصرة وأخرى مطولة.

بعض الصور تلفت الانتباه وتجبر المشاهد نحوها وقوفا، لأنها تعود لحادثة معينة، تقص للناظر عما جرى في تلك الحقبة وما رافقها من متغير وتبدل.

زوار يصوبون كاميراتهم لالتقاط قميص رقم 10 للفتى الذهبي معروضة في باترينه خاصة، ينبري حولها رطانة كلام لا افهمه يتخلله تأوه وتعجبا ”واو“ بجر اسم ”مارادوووونا“ وكلام يتلو كلام، وصورة له فرحا وهو جاثيا على ركبتيه ورافعا يديه عاليا، بعد تسجيله أحد الأهداف في ملعب الكامب نو ومشهد مماثل، لحشود تشكل دائرة، تقف أمام صورة شخص تبدو عليه سمات المهابة، إنه مؤسس نادي برشلونة ”هانز غامبر“ ذو الأصول السويسرية والذي عاونه ثلاثة رجال من عدة جنسيات، أسباني وألماني وإنجليزي كانوا أصدقاء يمارسون هواية كرة القدم في ساحات برشلونة الترابية، اجتمعوا وقرروا تأسيس فريق كرة قدم يوم 29 نوفمبر عام 1899.

يتناهى للسمع ضجيج وصخب لأصوات الجماهير وتعليق انفعالي لسير إحدى المباريات بلقطة لتمريرة ”تيكا تاكا“ وهي تسكن الشباك، تنبعث من خلال شاشات ذات أحجام ومقاسات صغيرة وكبيرة موزعة على جدران قاعة مظلمة وأخرى تقدم أفلاما وثائقية عن أزمنة متعددة لمسيرة تاريخ النادي الحافل بالأحداث والإنجازات، من ضمنها أسبقيته بجعل ملعبه القديم مضاء بالأنوار سنة 1910، والذي يعد أول نادي في أوروبا يمارس اللعب ليلا.

الافتخار علامات مرصعة بالنجوم، تقود المتلقي أينما ولى وجهه في كل أرجاء المتحف.

عيون الزوار تسافر نحو أيام غابرة وتنسى زمنها الحاضر بعضا من الوقت، توهان في المحتويات والمعروضات بطريقة جاذبة وعصرية تلعب التكنولوجيا في إبراز الكنوز، متحف رياضي منوع مزدان بعديد الصور الفتوغرافية، لشخصيات إدارية ومدربين تعاقبوا على تدريب الفريق، وصور أخرى لمشاهير كرة القدم الذين مروا بالنادي عبر عقود 122سنة، عرض فني جاذب للعيون وآسر للعقول، والحال ينطبق أيضا على نادي ”ريال مدريد والباير ميونخ وإنتر ميلان“ حيث قصدتهم في زيارات مختلفة، زوار يتوافدون زرافات لدخول النوادي بتذاكر تتفاوت أسعارها من ملعب إلى آخر، دون وجود أي مباراة تجري أمامهم، إنهم عشاق الأندية لا يأبهون كم يدفعون، المهم إشباع متعة الفرجة وشراء تحف وقمصان وبدلات وأعلام تخص الفريق وشعاراته من متجره الضخم ذات الماركات الفخمة الغير مقلدة، سياح يتأبطون بالهدايا من عدد وأدوات رياضية، إنها لحظات مسرة يقضيها الزوار والسياح في كل أرجاء المتحف وبحرص شديد لتوثيق المرئيات ورصد جميع المعروضات عبر الكاميرا والحواس، كل يتغنى بما رأت عيناه مسرورا كفرحة اللاعبين عند تسجيل الأهداف.

أهداف النادي تحققت لجلب عديد السواح من مختلف الأقطار، ودفع قيمة التذكرة عن طيب خاطر، لمتحف رياضي عصري لا يختلف عن المتاحف الفنية والتاريخية.

واصلت جولتي نحو غرف تبديل ملابس اللاعبين، وصالة المؤتمرات الصحفية الخاصة بتصريحات المدربين. ودخلت حمامات السباحة وغرف التدليك، ومررت على مرافق النادي الأخرى من ضمنها صالات لألعاب رياضية مختلفة.

أندية عريقة جعلت من الرياضة تذر عليها أموالا طائلة من أبواب متعددة، ومن هنا علمتني هذه الزيارة، بأن كرة القدم ليست هواية عابرة والرياضة ليست تسلية لتقضية الوقت، إنما صناعة وإنتاج بضاعة، وعملية تسويق بشطارة وفن، تسهم في دعم الاقتصاد للمدينة، وتذر دخلا آخر على خزانة الدولة، وبالنسبة للاحتراف في مملكة أسبانيا فهو يعتبر حدث ثقافي يدعم ويساهم في الاقتصاد الأسباني بموجب العرض والطلب، وعلي سبيل المثال: ”في عام 2013 حقق احتراف كرة القدم لأسبانيا مبلغ 7,6 مليار جنيه أستراليتي متضمنة الشروط الاقتصادية وقد أثرت على الدخل الأسباني تأثير مباشر وغير مباشر بنسبة 0,75 %“.

ليت أنديتنا تستفيد من تجارب الدول المتقدمة، التي لغتها المال وهو العصب والديمومة، لكنها أندية تحمل ثقافة البلد، وترفع اسم وطنها أينما حلت وارتحلت.

الرياضة جميلة ورائعة توحد الغني والفقير وتصهر كل الأجناس، جامعة للشعوب وخير سفير بين الأمم.