آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 1:13 م

الرحيل المحتوم

ورد في مناجاة الإمام السجاد : مولاي وارحمني إذا انقطع من الدنيا أثري»[1] .

بلا شك أن مشاعر الحزن والأسى تعتصر القلب على فراق الأحبة والرحيل من الدنيا بلا رؤية فيها مجددا لمن عشنا معهم ردحا من الزمن، والذاكرة تزدحم بصور كثيرة لمختلف المواقف معهم، بل قد تكون الدنيا موحشة ومؤلمة بعد فراق أولئك الصادقين الأوفياء ممن شعرنا معهم بدفء الطيبة والأريحية والأخلاق الحميدة، ويا للأسى والحزن على فراقهم وقد رحلوا إلى عالم القبور وانقطعتهم علقتهم بالحياة، فمن منا يتعظ بخطى الراحلين ويعد نفسه لذلك اليوم بالعمل الصالح ومحاسبة النفس، فإن الإنسان هناك محض الضعف والحاجة إلى لطف ربه ورحمته.

أي صورة وعظية توقظ الروح تلك التي يرسمها الإمام السجاد في عقول الواعين، والذين فهموا حقيقة الوجود الدنيوي المؤقت بأجل مسمى سرعان ما يلبون بعده نداء الرحيل، مخلفين من ورائهم كل شيء وخصوصا ما بلغ حبهم له شغاف القلب من متاع زائل، ومن الجانب الوجداني فإن الصورة مؤلمة بلا شك لكل من التصق بظلال الدنيا السرابية فلا يقوى على مجرد التفكير بتركها فضلا عن الاستعداد لذلك، فالتفكير بالرحيل من الدنيا - مع يقينيته - ليس بالأمر السهل على الكثير والذين ألفوها والتصقوا بنعيمها.

حقيقة الرحيل إذا استقرت في النفس استعد لها المرء وتأهب بإتيان العمل الصالح وصنع المعروف، ويسعفه محاسبة نفسه والخلوة بها ليتأمل أحواله وأفعاله فيصحح هفواته وأخطاءه، وأما من أخذته سكرة الشهوات فأدمن الذنوب وتجذر فيه الغرور بزخارف الدنيا فإنه لم يع حقيقة وجوده.

ما الذي يوقظ الغافلين قبل أن يحين موعد رحيلهم مع زائر لا يستأذن، وبدون سابق إنذار يحل؟

هذه الدنيا على حلاوتها لم تدم لأحد من قبلك حتى تتأمل الخلود منها، وما صفت مشاربها فاستظل براحة البال والسعادة حتى تلقى منها أيام الراحة والطمأنينة، وإنما هي دار يتوارثها الجيل بعد الجيل وسيأتي اليوم الذي ترحل منها ليحل لغيرك.

تمر علينا من المذكرات ما ينبهنا من نومة الغافلين ويوقظنا لنحذر من الرحيل الخاسر، الرحيل الذي خلفنا من بعده سيرة لم تكن عامرة بما يتناسب والكمال المنشود للمخلوق المكرم، بل خضنا لجج الحياة الغامرة واستحوذ على الفكر قيادة الأهواء حتى امتلأنا بالعيوب والخطايا، ماذا لو أرعينا سمعنا لصوت الحكمة فوعينا لحقيقة الرحيل المحتوم؟!

فطلب الرحمة الإلهية بعد انقطاع الأثر من الدنيا لا يعني مجرد لقلقة لسان تخالفها سيرة وعمر تلطخ بالذنوب دون توقف، وإنما طلب الرحمة يعني طلب الرأفة بضعفنا، فإن النفس الأمارة بالسوء تسقط في كل مرة في حفر الخطايا،

والرحيل من الدنيا عبرة لمن تفكر في ساعة حلوله بلا إنذار، إذ أنه معبر وطريق إلى ساحة العدالة الإلهية والحساب والعقاب على كل طغيان وظلم مارسه العبد في حق نفسه والآخرين، فمن تعلق بالدنيا حتى شغاف القلب وتمسك بحطامها الزائل حتى كسر حاجز القيم، فتعدى على الآخرين بسلب حقوقهم والتعامل المالي الحرام بمختلف بصوره وأشكاله، أفلا يكون له من عظة بمن رحلوا من الدنيا قبله ممن جمعوا وكنزوا الثروات فتركوها؛ ليواجهوا مصيرهم وعقابهم على ما اقترفوه لوحدهم دون وجود معين أو نصير لهم؟!

الرحمة الإلهية تتنزل على العباد فهنيئا لمن وعى بفكره وجد سعيه في طريق الخير والصلاح، وزجر نفسه عن الخطايا والمنكرات - لا أقل - بالنظر لما يستتبعها من جزاء أليم في يوم الحساب، فيقظة القلب ووعي البصيرة صمام الأمان لمسير المرء في هذه الحياة فيلزم جادة الخير وتستنهضه إن وقع في وحل الرذيلة وتستنقذه منها.

الرحمة الإلهية تتنزل على من طوع سمعه وقلبه فاستمع لصوت الحق والنصيحة والتوجيه من نفسه ومن غيره من الصالحين الحكماء، والذين يحيطون به إحاطة السوار فيبصرونه ويفهمونه حقائق الأمور، فكم من إنسان لاه وغافل قد اختلطت عليه الأوراق وتاه في دروب نسيان النفس، فباع نفسه بالثمن الأوكس الزهيد لمتاع الدنيا الزائل.

الرحمة الإلهية بانتظار من خلف وراءه الشهوات وأقبل على ربه منيبا تائبا مستقيلا من عثراته، وعاقدا العزم على التصحيح والتوبة والإنابة، فجعل من محراب العبادة والمناجاة محلا لتنزل ملائكة الرحمن مستغفرين له، فإن توالي الزلات والخطايا ركام خراب يقضي على صاحبه، ولا يسعفه في خلوته لتلقي النفحات والأنس بالله والطمأنينة سوى دموع البكاء على النفس والندم على ما فات.

[1] «الصحيفة السجادية ص 386»