آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 1:13 م

الموت والحياة في نظر الإمام الجواد (ع)

ورد عن الإمام الجواد : موت الإنسان بالذنوب أكثر من موته بالأجل، وحياته بالبر أكثر من حياته بالعمر»[1] .

إن تلك التوجيهات والإرشادات الصادرة من الهداة إلى الله تعالى تشكل الشخصية الإنسانية وفق القيم التكاملية، والتحلي بالفضائل المعلية للشأن والمحافظة على الكرامة والعزة الحقيقية، إذ إن هذه الكلمات تحتاج إلى تأمل وبحث وتقص دقيق لنيل اللآليء المكنونة في صدفاتها، فما تحمله من مضامين عالية وقيم رفيعة هي مفردات وعناصر تربية السلوك وتهذيب النفس وتخليصها من شوائب الأهواء، كما أنها تحرك العقول الواعية في فضاء المعارف الحقة وتكسبنا إدراك سبل الخير والصلاح، وذلك ما يؤسس الشخصيات وفق ذلك الإطار المعرفي والسلوكي الذي يجعل من صاحبها يتحمل مسئولية العمل الجاد في دروب الحياة الصعبة، وتقوده لإقامة العلاقات الناجحة وفق تلك الضوابط.

ومن تلك التوجيهات من باب المراد ما يتعلق بمفهوم الحياة والموت الحقيقي في نظره الشريف، وهو ما يعني - بالطبع - اتخاذ أسلوب بلاغي جميل ينقلنا من العالم المحسوس المادي إلى عالم المفاهيم المعنوية المهمة في حياة الإنسان، والتي لها تأثير كبير في فهم دوره ومساره المناسب لكرامته الإنسانية ويجعل منه عضوا بشريا فاعلا ومنتجا، فالحياة في منظور الإمام الجواد بعث القدرات والمهارات الكامنة في الفرد نحو آلية العمل الجاد والموجه نحو ميادين الإثمار والإعمار، وما يتنافى مع عمل الخير والصلاح فهو خلاف الحياة الحقيقية اللائقة بالإنسان، فالكسل والخمول والتعاطي مع الحياة بنظرة العبثية والتخلي عن المسئوليات لا يتناسب أبدا مع الدور المرسوم للمخلوق المكرم بعقله وإرادته، وكذلك النزول والانزلاق إلى عالم الشهوات الحيوانية والسير خلف الأهواء النفسية سيودي بالإنسان إلى عالم البهيمية، إذ البهائم المسيرة خلف غرائزها لا تعرف تحركا إلا خلف ما يجلب لها إشباعا لتلك الغرائز، بينما الإنسان مخلوق مكرم يناسبه التعاطي مع الأمور والمواقف من خلال التفكير الرشيد لا الأسر والانقياد لنزواته، ولذا عبر الإمام الجواد عن ذلك الإنسان الذي ينساق خلف المعاصي دون نظر لنتائج ذلك على دنياه وآخرته، بأنه يتجه نحو الموت الاختياري وإنهاء حياته الفاعلة والنشيطة، فالموت بمعنى قبض الروح من بارئها أمر لا دخل لنا فيه ولا معرفة بموعده، ولذا لا ينبغي الاهتمام به كتساؤلات وتصورات تتعاطى مع موعد حلوله، بل المطلوب منا ككائن مفكر أن نسعى ونعمل لآخر نفس دون كلل أو ملل، أما الموت الحقيقي فهو أخذ النفس نحو ما يرديها ويلحق بها الخسران المبين فهو تعاطي المعاصي ومقارفتها دون ارعواء، ففي الحياة الدنيوية لتلك الذنوب آثار وخيمة على المرء وكذلك الخسران الأكبر في يوم الحساب والعقاب، ففي الدنيا تعمل المعاصي على سلبه نقطة القوة عنده وهي إرادته، فيصبح مسلوب الاختيار والامتناع أمام ما يتراءى أمام نفسه الضعيفة من آثام وعيوب تلحق به النقص، إذ القوة الإنسانية إعمال الفكر المتأني والنظر في عواقب الأمور وخواتيمها، ومن ينقاد خلف أهوائه لا يملك زمام نفسه ويبدو ذليلا وأسيرا لهواه، وأما في الآخرة فهي عالم الجزاء على ما عمل في الدنيا ولا يضيع شيء منه، فكيف سيقابل بذلك الوزر الثقيل من الخطايا جبار السموات والأرضين؟

ويتمادى العبد ويتجرأ في ارتكاب المعاصي حتى يطرد نفسه من رحمة الله الواسعة، ويغلق على نفسه باب الرجوع والتوبة والطهارة النفسية، فتلك الذنوب تكون حاجزا وملهيا له عن الالتفات إلى نفسه وتصحيح أخطائه.

وأما الحياة الحقيقية فهي الفكر الواعي وتحريك القدرات وتحويلها إلى مساعي في طريق الخير وعمل المعروف، فتتحول الأنفاس إلى مراحل يتخطى الواحدة تلو الأخرى ليصل إلى أهدافه المنشودة، والبر باب ولسع لكل ما يقدمه الإنسان قاصدا به وجه الله تعالى والتقرب منه، إذ يحول المرء عمره - قصر أم طال - إلى شعلة من العمل الدؤوب باحثا عما يساعد به نفسه في يوم القيامة من طاعات، وكذلك على مستوى صنع المعروف وقضاء حوائج الناس، فتكون سيرته محمودة وقوامها العطاء وبلسمة آلام الآخرين، فأهل البر يرون أنفسهم ويقيمونها ويشعرون بالسعادة بمقدار ما يقدمونه للغير على مستوى المشاركة الوجدانية والفكرية والمادية.

[1] «كشف الغمة ج 2 ص 348»