آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 10:36 م

نخيلات القطيف بين الماضي والحاضر - سلسلة خواطر متقاعد

إن كان من أبناءِ وبناتِ اليّوم من لا يأكل التمر، أكاد أجزم أنه لم يَذُق العفّوسة القطيفيّة المغطّاة بالسّمن البلدي، ولم يجرب خبزَ التمر الأصفر البرّاق، أو المعمول، في أيّام الشتاء. ومن منّا يستغني عن دبس التّمر في شهرِ رمضان ليضيف المذاقَ الحلو للقيمات الحارّة. كل هذا من بركاتِ نخيلات القطيف!

جاء شهرُ آذار/ مارس وبدأَ فصلُ الرّبيع يدخلُ من نافذةِ الحياةِ ويتسلل الشتاءُ دونَ أن يراهُ أحد. لن يستطيعَ فصلُ الربيع الخوّار الضّعيف أن يقاوم حرارةَ فصل الصيف وسوف يهرب سريعًا. ومع انتهاء فصل الشتاء فها هي أشجار النّخل تعلن عن بدأ حملها المرتقب. لن يكون تسعة أشهر، فهو يكتمل في منتصفِ السّنة الميلاديّة ويطيب مذاقه في فصلِ الصّيف.

مع أنه الآن انتهت - تقريبًا - كلّ تجمعات أشجار النخيل، لكن رائحة الذكورة والعزم على البقاء تملأ أجواءَ ما بقيَ من المزارع في مثل هذه الأيام. روائح تحمل بين ثناياها ذكرى جيل النّخالوة، الذين استطابوا هذه المهنة وأبدعوا فيها. فإذا ما حان وقت العناية بالنّخلة اصطفّ المزارعون على أبوابهم يستأجرون خبرتهم وخدمتهم. وصاحب الحظّ من يحجزهم قبل أن تفسد حمولة النخل.

كان عمّال النّخيل الذين ماتوا كلهم، أو أغلبهم، يأتون صباحًا مع طلوعِ الشمس، ويعملون حتى منتصف الصبح حين يأتي لهم والدي بالفطور - الرسمي - الذي في العادة كان عصيد الدقيق مغطى بالسمن، وحليب البقر الحار. يستظلون تحت النّخيلات ويأكلون ما يقدّمه لهم ثم يتابعون عملهم حتى ساعات ما قبيل العصر وينصرفون.

حرفةٌ ماتت ومات أصحابها وماتت النّخلة لولا اهتمام بعض الأوفياء لها بزراعة أصنافها الجيّدة في منازلهم ومزارعهم الخاصّة. لم تكن لتدوم في عصر التقدّم والانفتاح وتوفر البدائل العديدة من الغذاء، إلا أن هذه الثمرة الآن تحولت الى فاكهةٍ يَستطيبها الأغنياء في كلّ وقت، بعدما كانت أكلةَ الفقراء، بها نجوا من الموت.

الحياة حينها كانت متعبة والنّخلة هي التي جعلت الحياةَ أكثرَ راحة. هي الشجرة التي ينام على حصيرتها المنسوجة من سعفها حيًّا القطيفيّ، ويُلفّ في حصيرتها ميتًا، وفيما بين الحياةِ والموت كانت تمده بالغذاء والدّواء والسّكن وأدواتِ اللعب، وكأنها تحتضنه من المهدِ إلى اللّحد.

تلك النّخيلات الباسقات ذوات الطّلع المنضود، بعضه فوق بعض، لم يعدن يشغلن أي حيزٍ - تقريبًا - من الاقتصادِ القطيفيّ. لا ماء يسقيها ولا أرض تحتضنها ولا رجال يصبرونَ على تعب وشقاء خدمتها. حتى لو أن دعبل الخزاعيّ موجودًا اليوم لبكى لحالها مثلما بكى مأساةَ البرامكة ذاكرًا النخلة، ورمزيتها:

ألم تر صرفَ الدهر في آل برمكٍ
وفي ابن نهيكٍ والقرون التي تخلو

لقد غرسوا غرسَ النخيلِ تمكّنا
وما حصدوا إلا كما حُصِد البقلُ

مستشار أعلى هندسة بترول