آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 5:35 م

من يملك اسم الله؟

الدكتور أحمد فتح الله *

قرأت خبرًا يوم الخميس الماضي «11 مارس 2021م»، تناقلته وكالات الأنباء والصحف[1]  بأن ”المحكمة العليا في ماليزيا تسمح للمسيحيين باستخدام كلمة الله في النصوص والخطب الدينية“. وتفصيله أن هذه المحكمة ألغت سياسة تحظر على المسيحيين استخدام لفظ ”الله“ في المطبوعات الدينية، وذلك بعد معركة قانونية استمرت لعقود. يأتي ذلك في إطار قضية رفعتها امرأة مسيحية، تم الاستيلاء على ”موادها الدينية“ لاحتوائها على كلمة ”الله“، التي يعتبرها كثير من المسلمين الماليزيين ”خاصة بهم“. وأثار موضوع استخدام غير المسلمين كلمة ”الله“ توترا وعنفا في ماليزيا في الماضي.

يشكل المسلمون ما يقرب من ثلثي سكان ماليزيا، لكن هناك طوائف مسيحية كثيرة، وهم استخدموا كلمة ”الله“، التي دخلت لغة الملايو من اللغة العربية، للإشارة إلى ”ربهم“ لقرون وأن الحظر القائم «قبل الإلغاء» ينتهك حقوقهم، رغم أن دستور ماليزيا يكفل حرية الدين، لكن التوترات الدينية تصاعدت في السنوات الأخيرة، حسب التقرير الأخباري.

في عام 2008م، صادرت السلطات الماليزية أقراصا مدمجة «تسجيلات» بلغة الملايو من مسيحية، ”جيل إيرلاند لورانس بيل“، في أحد المطارات بعد أن وُجِدَ أن التسجيلات تستخدم كلمة ”الله“ في أغلفتها، لكن جيل بيل رفعت دعوى قضائية ضد الحظر، الذي فرض عام 1986م على استخدام المسيحيين للكلمة في المنشورات.

وبعد أكثر من عقد من الزمان، قضت المحكمة العليا في كوالالمبور يوم الأربعاء الماضي «10 مارس 2020م»، بحق المرأة في عدم التعرض للتمييز على أساس عقيدتها. وتضمن حكم القاضية «نور بي» بأن كلمة ”الله“، وثلاث كلمات أخرى من أصل عربي وهي: ”الكعبة“، ”بيت الله“، و”صلاة“، يمكن للمسيحين استخدامها. وقالت القاضية إن التوجيه الذي حظر استخدام الكلمات الأربع كان ”غير قانوني وغير دستوري“، مضيفة أن ”حرية اعتناق وممارسة الدين يجب أن تشمل الحق في امتلاك المواد الدينية“.

ويضيف التقرير الإخباري أن هذه ليست المرة الأولى التي ينقسم فيها الماليزيون حول استخدام المسيحيين كلمة ”الله“. قبل سنوات، رفعت صحيفة كاثوليكية محلية «The Herald» دعوى قضائية ضد الحكومة بعد أن قالت إنها منعت من استخدام الكلمة «أي الله» في إصداراتها بلغة الملايو كاسم ”الإله عند المسيحيين.“ وفي عام 2009م، حكمت محكمة أقل درجة لصالح الصحيفة وسمحت لها باستخدام الكلمة مما أدى إلى تصاعد التوترات الدينية بين المسلمين والمسيحيين تعرضت بسببها عشرات الكنائس وبعض مساجد المسلمين للهجوم والحرق حينذاك. وفي عام 2013م، ألغت محكمة الاستئناف القرار وأعادت فرض الحظر. ويذك التقرير أن صحيفة محلية إن ”التوافق الوطني“، وهو ائتلاف سياسي ماليزي، دعا يوم الخميس «11 مارس 2021م» إلى إحالة حكم المحكمة العليا الأخير إلى محكمة الاستئناف. انتهى.

بما أن القضية حول اسم يقرؤه المسلمون عامةً، من بينهم المسلمين الماليزيين، يوميًّا في خمس صلوات، سورة الفاتحة التي تبدأ ب ”باسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين“، هي ركنها. وهناك آيات كثيرة في القرآن تقول ”عبادي“، و”عباد الله“، وكل الإنس والجن عباد الله، وكذلك الملائكة. وهذا أمرٌ مفروغ من نقاشه، لكن ماذا عن البعد اللغوي لاسم الجلالة؟ هل هو إسلامي؟ وهل هو عربي؟

قبل الدخول في محاولة الإجابة، لابد من عرض مقدمة مستحقة لعظمة الاسم وجلاله، وهي مكونة من نقطتين:

الأولى: عن الاسم والمعنى

[الله]: عَلَم على الإله المَعْبُود بحق، أصْله ”إله“، دخلت عليه أَل، ثم حذفت همزته وأُدغم اللَّامان «المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية بالقاهرة»، ويقول أحمد رضا: ”الله: علم على الذات الواجبة الوجود تعالى وتقدس“ «معجم متن اللغة»، وزين الدين الحدادي «المناوي، ت: 1031 هـ »: ”الله: علم دال على الإله الحق دلالة جامعة لجميع الأسماء الحسنى“ «التوقيف على مهمات التعاريف» [2] . ولعلَّ هذا ”الاسم“ قد تجاوز المفردة والمصطلح وأصبح ”مفهومًا“، أي أحد ”المفاهيم الدينية“ الكبرى[3] .

الثانية: مميزات الاسم

امتاز اسم الجلالة «الله» عن غيره من أسمائه تعالى بأنّه أشهر أسماء الله تعالى، ولا تقع الشهادة إلا به، أنّه علم على الذات المقدسة وهو مختص بالمعبود الحق تعالى فلا يطلق على غيره حقيقة ولا مجازاً، أنّه اسم غير صفة بخلاف سائر أسمائه تعالى فإنها تقع صفات، وأن جميع أسمائه الحسنى الأخرى تتسمى به ولا يتسمى هو بأحدٍ منها: فلا يقال الله اسم من أسماء الصبور ولكن يقال الصبور اسم من أسماء الله تعالى، وهكذا. ولهذه الأسماء أحكام فقهية خاصة، كالمس بدون طهارة، أو الهتك أو الإهانة، وغير ذلك.

بعد هذه الخلفية عن الاسم الذي هو محور عبادات وسلوكيات المسلم الفعلية واللفظية، نطل على البعد التاريخي، أي الايتمولوجي «أصل الكلمات وتطورها»، له في محاولة للإجابة عن السؤالين الذي أثارهما حظر استعماله من قبل غير المسلم في ماليزيا.

تاريخ اللفظ

كان لفظ الجلالة ”الله“ مستعملاً قبل نزول القرآن، ويعرفه عرب الجاهلية ويشهد بذلك قوله تعالى: ﴿ولئن سئلتهم من خلقهم ليقولن الله «الزخرف - 87»، وقوله تعالى: ﴿فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا. «الانعام - 136»، وسأرجع لأسبقية الاسم على القرآن الكريم أدناه، الأسبقية هنا من منظور تاريخي واقعي وليس من منظور كلامي فلسفي، أو عقدي أو لاهوتي. هذا وقد اختلف المفسرون وعلماء اللغة في أصله اللغوي.

الاختلاف في أصله اللغوي

اختلف القائلون في أصل لفظ الجلالة «الله»، وهل هو مشتق من اسم آخر أم لا؟ القائلون بالاشتقاق اختلفوا فيما بينهم في المعنى المشتق منه إلى عدة أقوال بلغت ”عِشْرِينَ قَوْلاً“ «القاموس المحيط، وللتفصيل انظر معجم لسان العرب، مادة أ. ل. ه». وابن القيم الجوزية «ت751 هـ » يهوِّن من أمر هذا الاختلاف فيقول: ”إن اختلاف القائلين بالاشتقاق وعدمه، إنما هو اختلاف شكلي“ «بدائع الفوائد، 2/ 32»، ويؤكد في مكان آخر أنه ”لا أهمية لهذا الاختلاف، وأنه لا يصل إلى المعنى“ «2/ 473».

إنَّ اسم الجلالة «الله» في العربية مستعمل عند العرب قبل ظهور الإسلام بزمنٍ طويل. وفي اللغة العربية دُمِجت ”آل“ التعريف مع كلمة ”إله“ لتدل على «الله» الإله الواحد، وهو إسم علم مُفرد لا جمع له في اللغة العربية.

وكان اسم أحد الأصنام التي يعبدها العرب ”اللات“ «الجذر عربي»، ولذلك ينسب العلماء كلمة ”الله“ إلى أصل عربي، ولأن العرب استخدموها كثيراً قبل مجيء الديانة الإسلامية، أي خلال العصر الجاهلي، ولكن هناك من علماء العربية، كأبي زيد البلخي[4] ، يرى إنّ لفظ الجلالة «الله» ليس بعربي بل عبري أخذه العرب عن اليهود، واستدل عليه بأنّ اليهود يقولون: «إلاها» والعرب حذفت المَدَّة التي كانت موجودة في آخرها في العبرية ككثير من نظائرها العبرية؛ فتقول «أب» بدل «أباه» و«روح» بدل «روحا» و«نور» بدل «نورا» إلى غير ذلك.

وبهذا الصدد يذكر لويس شيخو أن علماء اللّغات الساميّة يجمعون: ”أنّ هذا الاسم مشتق من أصل آرامي“ ايل ”، ومفخّم بزيادة الهاء في الكلدانيّة والسريانيّة على صورة آلها فقالوا بالعربيّة الله بلام أصليّة مفّخمة. وقد جاء الاسم الكريم في الكتابات النبطيّة والصفويّة، فالنبطيّة ذكرته منسوباً إليه كزيد الله وعبد الله[5]  وتيم الله، وورد في الكتابات الصفويّة منفردًا“ [6] .

ويضيف الأب شيخو: ولما كانت النصرانية دخلت إلى بلاد العرب خصوصًا من جهة الشام وتمكنت بين أحياء النبط أطلقوا اسم الله في لهجتهم على الإله الحق كما شاع بين طوائف السريان ونقلوه في أسفار العهدين القديم والحديث منذ أوائل القرن الثاني للمسيح. وخلاصة القول: إن اسم الله دخل في جزيرة العرب بنفوذ النصرانية خصوصًا، وعليه قد تكرر هذا الاسم الكريم في الشعر الجاهلي، الذي كان معظمه لشعراء نصارى وقبائل نصرانية كربيعة وبكر وإياد وغيرهم، على سبيل المثال:

- إلى الله أهدي مدحتي وثنايا.... وقولًا رصينًا لا يني الدهر باقيا

إلى الملك الأعلى الذي ليس فوقه.... إله ولا ربٌ يكون مدانيا

رضيت بك اللهم ربًّا فلن أرى.... أدين إلهًا غيرك الله ثانيَّا «زيد بن عمرو، عن ابن هشام».

- وذا النُّصب المنصوب لا تسكنه.... ولا تعبد الأوثان والله فاعبدا «الأعشى، شعراء النصرانية ص 365».

- إلهُ العالمين وكلُّ أرضٍ.... وربُّ الراسيَّات من الجبال «أمية بن أبي الصلت»

إذًا، اسم ”الله“، لغويًّا، أي في العرف اللغوي، يبدو أنه ليس عربيًّا ولا اسلاميًّا، ولكنَّه كذاته سبحانه وتعالى ليس ملك أحد، هو للعالمين، كل من خلقهم الله. أمَّا من الناحية العقدية، الله حسيب عباده، إضافة إلى أن ليس كل المسيحين ثالوثيين، يؤمنون «بالأب، ويسوع والروح القدس»، بل داخل المسيحيَّة، هناك ”التوحيديون“ الذين يؤمنون بأن الله يتكون من ”واحد فقط“، يسمونه ”الأب“، حسب الموسوعة البريطانية، مادة ”التوحيدية والعالمية“ «Unitarianism and Universalism: in Encyclopedia Britannica»، ويرون أن التيار السائد للمسيحية «التثليثي» ليس توحيديَّا، وقد أفسدها على مدى التاريخ. وحسب تأكيد المؤرخ ديفيد ميانو، توجد في المسيحية وجهات نظر توحيدية مختلفة «شرح للمسيحية اليونيتارنية، 2003، ص15» [7] .

في الختام، ما ترك الإنسان شيئًّا لم يُسَيِّسه...

نعم قامت حروب باسم ”الله“ ونشر معانيه المختلفة، حسب رؤية حامليها، لكن أن يُجاز أو يُمنع استخدامه ك ”كلمة“ من قبل جماعة دينية معينة، من ”أهل الكتاب“، أمر يثير الدهشة والخوف.

ولكن القضية الماليزية هذه تؤكد الحاجة إلى ”الثقافة اللغوية“ في ما نحمل من مفاهيم وعقائد، وما نستخدم من مفردات وألفاظ، وليس فقط في التوعية الدينية والتسامح الديني. لو كان المسلمون الماليزييون يعرفون تاريخ وتطور ”اسم الجلالة“ «الله»، واختلاف رؤى اللغويين المسلمين العرب فيه، لوجدوا في الحقيقة مانعٌ وفي الاختلاف سعةٌ ودافعٌ للتوقف للسؤال وفرصة لنشر الإسلام بالتي هي أحسن، والهادي هو ”الله“.

[1]  انظر على سبيل المثال تقرير ال بي بي سي «BBC»: https://www.bbc.com/arabic/world-56360255

[2]  هناك من يرفض ”الله“ اسم علم، انظر: ”معنى لا إله إلا الله“، للزركشي «ص: 113».

[3]  هذا يحتاج أن يدرس ابستمولوجيَّا، أي عن طريق «epistemology، وهو العلم المتخصص في درس كيفية تكوين المفاهيم وتحولها، وكيفية تبادلها بين علم وعلم، وكيفية تشكل حقل علمي، ودراسة الأحكام والقواعد التي يعاد بمقتضاها تنظيم المفاهيم للعلم. لهذا يطلق عليه أيضًا علم المعرفة أو المعرفيَّة، وفلسفة العلوم.

[4]  أبو زيد البلخي هو أحمد بن سهل البلخي «235 - 322 هـ / 849 - 934 م»، عالم في علوم شتى، لكن ياقوت الحموي في معجم الأدباء يقول عنه ولكنه بأهل الأدب أشبه، ويقول أبو حيان التوحيدي، في النظائر، يقال له بالعراق جاحظ العراق.

[5]  حمل اسم ”عبد الله“ كثير من الرجال في الجاهلية، قبل بعثة النبي محمد ﷺ، منهم، على سبيل المثال: عبد الله بن عبد المطلب، والد النبي ﷺ، والصحابة عبد الله بن رواحة، وعبد الله بي أبي السرح، وعبد الله بن الجراح «جدّ أبي عبيدة الجراح، عبد الله بن مسعود». وجاء في أقوال العرب أيضًا، مثل: ”لم أضرب عبد الله ولم يضربني زيد“ «الأضداد، لابن الأنباري، ص 259».

[6]  النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية، ص 159، والجدير بالذكر أن اللغة الصفويَّة، حسب كرد علي، هي ”لغة سادت في الجنوب الشرقي من دمشق في مدخل بادية الشام حول الصقع البركاني المسمى بالصفا، وعُثر هناك على كتابات كثيرة على الصخر البركاني، والشعب الذي خط هذه الكتابات في القرون الأولى للميلاد هو من أصل عربي، ولغته من اللهجات العربية، وخطه من فصيلة خطوط ديار العرب الجنوبية“ «خطط الشام، ج1، ص 43-44».

[7]  انظر:

Miano، David [2003] ، An Explanation of Unitarian Christianity، American Unitarian Conference «AUC»، URL: http://www.americanunitarian.org/explanation.htm

أمّا جوزيف بريستلي، أحد مؤسسي حركة الموحدين، عرّف التوحيد بأنه الإيمان بالمسيحية البدائية «أي الأصلية» قبل حدوث حالات فساد لاحقة، من بينها: عقيدة الثالوث، والعديد من المذاهب والأعراف الأرثوذكسية الأخرى «إيرل مورس ويلبر، تاريخ التوحيد، مطبعة جامعة هارفارد 1952، ص 302-303»، Earl Morse Wilbur، A History of Unitarianism، Harvard University Press 1952، pp. 302-303
تاروت - القطيف