آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 5:35 م

يا الله الشَّيب ولا العيب  - سلسلة خواطر متقاعد

لكل مرحلةٍ من العمرِ جمالها، وهذه المراحل تسير نحو الأمام، لا نستطيع سوى السيرَ معها، وإلا تركتنا خلفها، فلا المشيب ولا الموت يمكن إعادته القهقرى. وهما ظاهرتان من ظواهر تجدّد الحياةِ وسيرها نحو الأمام. فلا يجب أن يفزعنا المشيب ونحن نرى الشَّمسَ تشرق في الصِّبح وتغرب في المساء والشَّجر يورق في فصلٍ وتسقط أوراقه في فصلٍ آخر، ظواهر طبيعيَّة لا محيدَ ولا مفرَّ منها. ورحمَ اللهُ أمهاتنا وآباءنا فلطالما كانوا يدعونَ اللهَ ويتمثلون القولَ الشَّعبي: يا الله الشَّيب ولا العيب.

وعندما يشتكي رفاقي من هذهِ المرحلة - المشيب - أقول لهم: رحبوا بالشَّيب. إنها المرحلة التي يتجمَّع فيها كلُّ جمالكم في عقولكم وفي نظراتكم الصائبة، لا في أجسادكم وشَهواتكم، وإن بهتَ جمالكم المادِّي في نظرِ الرائي. كيف تشتكون وقد وهبكم خالقكم أوسمةً ونياشين جميلة وكثيرة في هذا العمر؟! وإليكم بعضًا من هذه النياشين:

”إن من إجلالِ الله عزَّ وجلّ إجلال الشَّيخ الكبير“.

”من عرفَ فضلَ كبيرٍ لسنِّه فوقره آمنه اللهُ من فزعِ يومِ القيامة“.

”من إجلال الله عزَّ وجلّ إجلال المؤمن ذي الشيبة ومن أكرم مؤمنًا فبكرامةِ اللهِ بدأ ومن استخفَّ بمؤمنٍ ذي شيبة أرسلَ اللهُ إليه من يستخفّ به قبلَ موته“.

والسؤال هو: هل فعلًا يعي جيلُ الشَّباب الصَّاعد هذه التَّوصيات في كبارِ السِّن؟ أم يُزاحموهم في الشَّارع والمجلس وفي أوقاتِ راحتهم وسكنهم في اللَّيلِ والنهار؟ وكأنّ كبار السِّن لا مكانَ لهم بينهم! أظن أنَّ الجوابَ يحتمل أقوالاً عديدة، وجوابي هو:

قالت الضفدعُ قولاً
فسرته الحكماءُ

في فمي ماءٌ وهل
ينطق من في فيهِ ماءُ!؟

يحل الشَّباب ويرحل، والكهولةُ ترحل، لكن هذا الشَّيب إذا حلَّ لا يرحل، فهو كما قال صريعُ الغواني، مسلم بن الوليد الأنصاري:

لا يَرحَلُ الشَيبُ عَن دارٍ أَقامَ بِها
حَتّى يُرَحِّلَ عَنها صاحِبُ الدارِ

يأتي الشَّيب بعد مرحلة أنتهى فيها الطيشُ والغرور، ويسود فيها التأمل في الماضي والأمل في المستقبل. في الشَّيبِ وقارٌ وإن كرهه الناس. وهل من ليلٍ جميلٍ ليست فيه نجومٌ تبرق، فلله در الفرزدق حين يقول:

تباريق شيبٍ في السَّواد لوامعٌ
وما خير ليلٍ ليس فيه نجومُ؟

خلاصة الفكرة، إذا حلَّ في داركَ الشَّيبُ رحِّب به وحيِّه، وإذا رأيتَ من شابَ فأكرمه. وتذكر أنه كان شبَابًا غضًّا طريًّا مثلكَ الآن، وأنت إن دامت لك الأيَّام سوف تشيب!

مستشار أعلى هندسة بترول