آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 7:41 م

أحياء وإحياء

المهندس أمير الصالح *

كسب قلوب الآخرين فن لا يجيده إلا أصحاب البصيرة والنفس الطويل والأخلاق السامية. اختصارا سأورد قصتين وقفت على مصاديقهما في بعض بقاع من الأرض.

قصة 1:

سمعت إصداع الاذان للصلاة وكنت في معية أحد الأصدقاء بمنزله في أحد الأحياء بمدينة عربية كبيرة ومترامية الأطراف. فقال الصديق دعنا نذهب للصلاة في المسجد المجاور هذا وأشار بيده نحو. مسجد نهاية الشارع الذي يقطن به. فقلت له، اليس إمام هذا المسجد يكيد لمدرستك الفكرية وانتماءك الديني وابل من تهم التسقيط والشتم والتعرض للأعراض والتحريض على الكراهية في حقك وحق أهلك وكل من يظن ذاك الرجل انه يخالفه في الفكر. فقال ليس هذا المسجد ويبدو لي انك تعني هذاك المسجد وأشار بيده باتجاه مكان آخر. فقلت له وكيف ذلك؟!. فقال، في تاريخ انطلاق هذا المسجد وعند العزم على بناءه، تم إطلاق دعوة موجهة للأهالي للمساهمة المالية والعينية في البناء والتشييد للمسجد هذا. وحينها تقدم أبي وتبرع ماليا وعينيا، فتفاجئ المشرفون على جمع التبرعات من تبرع أبي. وفي اليوم التالي، اطرق باب منزلنا وفد مشكل من قبل المشرفين على إنشاء المسجد المعني واستضافهم أبي بالمجلس وحسن الضيافة لهم. وبدأ الحديث بنقطة استفسار اثارها احد اعضاء الوفد بقول احدهم: انت من مدرسة فكرية اسلامية تختلف عن مدرستنا، فما الدافع لك للمساهمة المالية والعينية في بناء مسجدنا. فرد والدي بالقول: ”قال الله جل جلاله ﴿إن المساجد لله فلا تدعو مع الله احدا. شخصيا وضعت الله في قلبي واسعى إلى مرضاته في فعلي وقولي ولا اسعى لمرضاتكم أو مجاملتكم. واردت أن أكون ممن ساهم ويُساهم في فتح أبواب بيوت الله ودور العبادة لكل أطياف المسلمين حيث اعول أن يتم نشر الأخلاق الفضيلة ومقارعة الرذيلة واخماد الفتن. حينما تبرعت لبناء بيت الله، لم انظر إلى خلفية أو انتماءات أمام المسجد وأنما استحضرت في نفسي وأنفس أهل بيتي وقع رفع الأذان ولما له من أهمية في تنمية الألتصاق بالله وتعميق الهوية. وأرجو أن تكون أبواب هذا المسجد مفتوحة للجميع عند إداء الصلاة دونما إجبار أو اذلال أو تعرض أو امتهان أو تمييز لأي شخص قدم للدخول لبيت الله طالبا عبادته وقاصدا رضاه فالمساجد لله وليست لطيف أو لون محدد“، انتهى كلام والدي للوفد. بعد ذلك اللقاء، شكر الوفد والدي على حسن الضيافة وأجمع الوفد باطراء قوال الوالد وعلى نفاذ بصيرته وجميل أهدافه. ومن بعد ذلك اللقاء ونحن والجيران رسمنا خطوط عريضة ومتينة قائمة على الأحترام المتبادل. ومع تقادم الأيام مساحة الأحترام اضحت أكبر يوم بعد يوم. وبعد اتمام بناء المسجد نصلي في ذات المسجد واضحى شبه عرف غير مكتوب بين أبناء الحي بأن الأغلبية من منتمي مدرسة فقهية معينة تقوم بإداء الصلاة جماعة والأقلية من مدارس فقهية أسلامية أخرى يصلي أبناءها في ذات المسجد فرادى. وهكذا أصبح هذا المسجد مهوى افئدة الجميع ونبراس للاندماج الاجتماعي ونموذج ناجح في خلق تفاهمات بناءة بين أبناء مدارس الفقه الإسلامي المختلفة.

مع بزوغ جائحة كورونا وذروة الحجر الصحي، أستشعر مرتادي المسجد - المفتوح للجميع - تفاعل كبير وسريع وتعاون في معالجة مشاكل المتعثرين وسد حاجة المحتاجين والأقل رزقا من أبناء الحي دون النظر لخلفيتهم الدينية أو جذور انتماءهم المناطقي. وهذا التعاضد كان افضل تمثل لتشبه باخلاق النبي العظيم. فقد ورد في قول منسوب لـ ام المؤمنين خديجة بنت خويلد سلام الله عليها:“كَلا وَاللَّهِ لا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، وَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ «أيِ التعب»، وَتُكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ”*.

قصة 2:

كان العرب والمسلمين القاطنين في أحد مناطق القارة الأمريكية الشمالية القارسة البرودة مبعثرين التوجة وقليلي الأثر في مدينتهم ومتعددي الطرق والأغلب يخشى أن يفقد هويته ويذوب أبناءه في ثقافة غيره. فمنهم أي المسلمين هنالك المتدين المتطرف أو المتشدد، ومنهم الخمار الزمار، ومنهم العالم الأكاديمي، ومنهم العيار الدجال، ومنهم من يسعى على رزق أبناءه بالحلال، ومنهم من يسعى إلى اشباع شهواته بالحرام، ومنهم من انسلخ عن أبناء جلدته، ومنهم من يوطد العلاقة بمسقط رأسه، وبين هذا وذاك أطياف عدة ومن ضمنهم من هو مذبذب بين هولاء واولائك. إلا أن الجميع من الاطياف المذكورة اعلاه بمتطرفيهم ومنحليهم وعقلائهم ومجنونهم ومؤمنهم وفاسقهم وملتزمهم وداشرهم مقرين باهمية تخصيص أرض كمقبرة خاصة للمسلمين في تلك المنطقة واستحصال الموافقات الرسمية لذلك. سعى ثلة من الصادقين في خدمة ابناء المسلمين وتحركوا بجهود حثيثة لاستحصال تلكم الموافقة وتخصيص أرض بالقرب من سجن المدينة لتكون مقبرة للمسلمين. وبعد كبير جهد تم إحراز الهدف وتحقق الأمنية على أرض الواقع. حينذاك انبرئ بعض المتشددين من احد الاطراف المستقوية بالأموال والأتصالات ونفوذ لتقسيم المقبرة الى قسمين بناء على انتماءات مدارس الموتى الفقهية. فتم بناء جدار يشطر المقبرة الى «أ» و«ب» لتفريق بين الموتى. ورجع ابناء ذات الجالية العربية المسلمين في تلكم المنطقة بالتشرذم مرة أخرى كما كانوا قبل الحدث بعد تلمس مخاض نجاح لم يبنوا عليه. أتسأل بيني وبين نفسي أكثر من مرة، وبعد ضياع الكثير من الجهود والاوقات والاموال في ساحات الكثير من المجتمعات، اما آن لقلوب اولئك المثابرين في زرع الشقاق أن ترتدع من حب الخصومة والكراهية والتشرذم. أما آن لاولئك الناس أن يعتبرون مما نزل بالناس من فوادح خلال جائحة كورونا والانتكاسات المالية والنفسية. شخصيا اشد على أيادي المخلصين الصادقين والأوفياء من أبناء كل المدارس الفقهية في سعيهم لتالف ولكل من سعى ويسعى للخروج من طريق الزلق الذي تمر به الكثير من المجتمعات الحالية. فهناك نفوس فاعلة ومحترمة وخيرة تجتهد لاستنقاذ الأنفس الخاوية من حولها وبوجودها تنتعش الاحياء «جمع كلمة الحي». فتلك الانفس الكريمة جديرة بلقب إحياء الأحياء.