آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 8:44 م

مدمرة العلاقات البشرية

نجاة آل إبراهيم *

﴿لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍالحجرات - 11

خلق الله الأرض والشمس والقمر والكواكب والنجوم والمجرات لكل منها فلكٌ مخصوص ومُحدد يسبح فيه، ومن يخرج عن فلكِه أو مسارِه يتحطم ويتناثر ويدخل في فوضى الفضاء حيث لا فلك ولا مسار، لأن خروجه عن الفلك يعني إنتهاء نظامه، لذلك نَسمع عن تحطم بعض الكواكب التي انتهى عمرها ودورها فتناثرت على هيئة شُهب ونيازك بأن تخرج عن مسارها وفلكها التي تسبح فيه.

هذا في النظام الكوني، أَما على مستوى تنظيم حياة البشر، الله سبحانه وتعالى جعل لنا لوائح وتنظيمات وقوانين نسير عليها لترسيخ حالة الأُلفة والوئام في المجتمعات البشرية وجعل هذه المقاييس والمعايير تختلف عن المقاييس والمعايير التي يجعلها الناس لأنفسهم.

التباعد بين هذين «المقياسين» يُنشأُ أمراض نفسية تنخر في البُنى التحتية للصرح الإجتماعي لأي مجتمع.

الآية الكريمة تتحدث عن مفردة من مفردات هذه الأمراض النفسية في العلاقة مع الآخرين ألا وهي مفردة السُّخرية.

▪ السُّخرية لغة:

الاستهزاء والإنتقاص والاحتقار.

▪ شرعاً:

النظر للآخرين نظرة دونية ونظرة إحتقار وإزدراء، تكون عبر التصرف غير اللائق بالقول، أو بالفعل، أمام الإنسان أو خلفه، بقصد تحقيره والاستهزاء به، وإضحاك الناس عليه.

ولا يوجد سبب واحد للسخرية، ولكن الواضح أنها لا تنبع من فراغ وإنما هي عبارة عن الإفصاح عن عُقدة الحقارة والنقص الكامنة لدى البعض، ومحاولة تغليفها والتستر عليها بإستنقاص الآخرين والحطّ من مكانتهم.

▪ قوم:

«الاحتمال 1» للمعنى:

الجماعة من الناس وقد شاع إطلاقه على الرجال دون النساء ويؤكد هذا المعنى تخصيص النساء في تكملة الآية «وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ».

«الاحتمال 2»:

أن لفظة ”قوم“ تشمل الرجال والنساء وسبب التخصيص للنساء في تكملة الآية هو لوجود هذه الظاهرة أكثر في أوساط النساء في العصر الإسلامي الأول ومالحقه من عصور.

♦ الآية الكريمة ومابعدها تُكرِّس ثقافة وقيمة «الاحترام» لجميع الناس وللمؤمن بلحاظ إيمانه من باب الأَولى، وتنهى عن «السُّخرية» لكونها مفتاح للفتنة والعداوة بين الناس.

وتسببها في وهن بناء المجتمع القوي المتماسك.

وأسلوب الأمر هنا وعظي إرشادي علاجي لظاهرة موجودة عند العرب قديماً وحديثاً.

السُّخرية بين الأشخاص سيئة وقبيحة ولكنها تكون أكثر سوءاً وقبحاً عندما تكون بين «الجماعات» الذين يتعاملون بالتعالي والعجرفة بسبب النسب أو الجاه أو المال مما يؤدي إلى «العنصرية» بكل أشكالها:

القبلية، الطائفية، العرقية وغيرها.

بعض جذور ومناشئ السخرية:

1 - امتلاك الثروة:

فالغني ينظر إلى الفقير نظرة احتقار وازدراء.

2 - الحسد:

ورد في الحديث الشريف عن رسول الله محمد ﷺ «كُلَّ ذِي نِعْمَةٍ مَحْسُودٌ»

وحيث أن الحاسد لا يستطيع أن يزيل نعمة المؤمن فيلجأ إلى السخرية منه لمحاربته.

3 - البيئة الفاسدة:

التي ينشأ فيها الإنسان فتُغذيه على احتقار الآخرين، وإستنقاص حقوقهم لا لشيء إلا إشباع الروح المريضة القابعة في نفسه.

4 - إمتلاك العلم والمعرفة:

﴿فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ غافر - 83

قومٌ لشدة إعجابهم بما كسبوه من الخبرة والعلم الظاهري الذي اغتروا به وأوجب بعد ذلك إعراضهم عن المعارف الحقيقية التي جاءت بها رسلهم، واستهانتهم بها وسُخريتهم لها.

5 - القوة الجسمانية:

﴿وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً فصلت - 15

هؤلاء القوم كانوا يعيشون في ”حضرموت“ وكانوا يتصفون بوضع استثنائي من حيث القوة الجسمانية والتمدن المادي فكانوا يبنون القُصور الجميلة والقِلاع المُحكمة فأُصيبوا بالغرور بسبب قُدُراتهم حتى ظنوا أنهم أفضل من الجميع فكذبوا نبي الله ”هود“ واستهزؤا به وسخروا منه وتكالبوا عليه.

6 - الألقاب والمواقع الإجتماعية وحتى الدينية:

وهذا من أسوء أشكال السخرية عندما نسمع كثيراً عبارات تدل على السُّخرية عندما يذكر شخص لاينتمي لنفس الجهة ونتعامل على أساس حزبي مذهبي، تابع للمرجع الفلاني، وللجهه المعينة حتى جعلنا الإنتماء المرجعي شرطاً لصحة الصلاة. «كما يقول سماحة الشيخ حسن الصفار حفظه الله في موضوعه: السخرية بين الجماعات»

وحينما ينهانا القرآن عن الإتيان بهذه المفردة فإنه في المقابل يضع ثلاثة مقاييس سماوية يتمايز بها البشر عند ربهم بمعنى أن الإسلام أحدث نقلة فكرية في تقييم الإنسان وأبعد الإعتبارات المادية:

1 - التقوى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ الحجرات - 13

2 - العلم: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ المجادلة - 11

3 - العمل: ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا الأنعام - 132

•• إن انتهاج سلوك «السُّخرية» هو حالة مَرضية يدفعنا الشيطان لها ينتج عنها تدمير النفس من الداخل، ونشر الأحقاد والبغضاء بين المجتمع وبالتالي ندفع هذا المجتمع نحو هوة سحيقه من التصارع والتصادم ونُشغله بالتوافه ونُبعده عن الفاعلية والإنتاج والإنجازات التي أرادها الله لنا.

تقول الأخصائية وفاء المعلواني:

إن السخرية بالآخرين لها وقع خطير على النفس، حيث تؤدي بالشخص الى العزلة والتراجع في الآداء والعطاء من الناحية العلمية والعملية، وكثير مايصاب المستهزىء به بالإكتئاب والقلق وعدم على الإنجاز والتواصل مع الآخرين بشكل إيجابي.[1] 

ويقول المرشد الإجتماعي محمد توفيق:

إن للسخرية خطورة على المجتمع حيث تساهم في إضعاف الروابط الإنسانية وتعزز ثقافة الكراهية وانعدام المودة والرحمة بين الناس، وذلك بسبب مايتولد لدى المستهزأ به من رغبة في الإنتقام بسبب الحقد والعداوة، ويمكن ان تتطور الأمور وتخرج عن السيطرة، وتتحول إلى عنف تجاه المستهزئين بالآخرين.[2] 

لن أزايد عن الكلام فيما يختص بعواقب السخرية في الآخرة، يكفينا ماقاله رسول الله ﷺ في هذا الجانب:

«إِنَّ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِالنَّاسِ يُفْتَحُ لأَحَدِهِمْ بَابٌ مِنَ الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ: هَلُمَّ هَلُمَّ فَيَجِيءُ بِكَرْبِهِ وَغَمِّهِ، فَإِذَا جَاءَ أُغْلِقَ دُونَهُ، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ آخَرُ، فَيُقَالُ لَهُ: هَلُمَّ هَلُمَّ، فَيَجِيءُ بِكَرْبِهِ وَغَمِّهِ، فَإِذَا جَاءَ أُغْلِقَ دُونَهُ، فَمَا يَزَالُ كَذَلِكَ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لِيُفْتَحُ لَهُ الْبَابُ، فَيُقَالُ لَهُ: هَلُمَّ هَلُمَّ، فَمَا يَأْتِيهِ»

نسأل الله سبحانه وتعالى، أن يتوب علينا جميعاّ من هذه الآفة الماحقة، الخطيرة، آفة الإستهزاء والسخرية من خلق الله.

[1]  [2] علاقة السخرية من الآخرين باضطراب الشخصية - صحيفة الرأي
مسؤولة اللجنة النسائية في جامع الإمام الرضا بصفوى