آخر تحديث: 16 / 4 / 2024م - 4:10 م

خارج منطقة الراحة

ليلى الزاهر *

اعتاد والدي أن يصحبني معه أينما ذهب أخرج الصباح برفقته، وفي وقت الظهيرة نتناول الغذاء معًا، ثمّ نرتاد المسجد سويا وبعد تناول وجبة العشاء يأخذني والدي في زيارة خاطفة لجدتي كل ليلة.

أُحبُّ والدي كثيرا وأتبادل معه أطراف الحديث باستمرا ولكن ما لايعجبني في والدي أنه عندما يُسأل عن عمل والدتي يجيب بحياء:

أم طارق لا تعمل، هي في المنزل فحسب.

لم أعرف مايجول في خاطر والدي إلا أن علامات وجهه كانت توحي بعدم الرضا.

كنت أرى في أمي جميع سمات النّباهة والذكاء وهي بمثابة العقل المركزيّ للمنزل بأكمله، جميلة في محياها تضج ملامحها، تجود بكلمات التشجيع وتعمل كعصا نتكئ عليها جميعا في جميع شؤوننا.

أياديها بيضاء، وأفضالها جمّة.

أردتُ أن أقول لها:

أمي أبدعي وخاطبي والدي وغيره ممن يصفونك بأنك لاتستطيعين القيام بشيء غير طهو طعامنا وغسل ملابسنا.

أمي: أنت أعظم إنسان في حياتي، مهامك عظيمة، ونظرتك شاسعة.

أحترم خطواتك التنظيمية في جميع شؤوننا لذلك قررتُ أن أساعد والدتي من حيث لاتعلم وبدون أن أجرح مشاعرها.

«افعل أمرا خارج منطقة راحتك، فأحيانًا تعمل الأمور التي تُخيفنا على تطويرنا من حيث لانعلم»

كانت هذه فكرة الموضوع الذي قمت بالكتابة عنه في الواجب المنزلي الذي كلّفنا به أستاذ المهارات. عندما انتهيت من كتابته عرضته كالعادة على أمي كي أستفد من توجيهاتها التي تصبّ دائما في منبعها المُلائم؛ لأنها تملك زادا كثيرا من العلم والمعرفة ولها خبرة وتمرّس بكل شيء، ولاينقصها سوى توثيق علومها ومعارفها بشهادة أكاديمية.

عندما قرأت أمي الموضوع الذي كتبته

قالت لي مشجّعة:

رائع، بارك الله فيكَ بُني، بحق أنا فخورة بك جدا ياطارق، لقد أحسنت الاختيار أولا ثم وُفقت بعرض الموضوع ثانيًا.

أجبتها:

أما أنا ففخري بكِ يتضاعف كل يوم، أمي الحبيبة أنت سرّ إنجازي، وماتوفيقي إلا بالله تعالى.

بشروحك وتوضيحاتك الرائعة لي أُرجح بأنّك سوف تترجلين كأعظم معلمة، فأنت تشقّين بحر العلم شقًّا

وتُجيدين الحديث دون لجلجة أو خوف بل أراك «واثق الخطا يمشي ملكا».

عندما أنهيتُ حديثي ضمتني أمي إلى حضنها وهي تقول:

يا للزمن المتحرك، تبقى ثابتا دون سير وتلزم مكانك ليرتقي بجانبك من تُحب وتفرح لنجاح أحبة أناروا حياتك بنور علمهم.

قلت لها: لن يكفي ذلك، و«إلى أن يتعلم الأسد الكتابة ستظل كلّ القصص تُمجّد الصياد»

‏لاتُمعني في إخفاء مميزاتك يا أمي، ولا بأس بنجاح يُضاف لنجاحات متعددة.

أنا أثقُ بقدراتك، ويجب أن تعطي نفسك الثقة أيضا.

لقد تعلمتُ منك أن الثقة بالنفس هي الطريق الطويل الذي تقطعه في لحظات دون أن تلتفت يمينا أويسارا عند إخفاقك لأنها خير معين على معاودة الكرة من جديد.

قالت لي والفرح يعانق قسمات وجهها: برأيك أن أُكمل دراستي الجامعية؟ أم سبح الخيال في أعماق لاقرار لها؟

فرحتُ كثيرا لأنها فهمت مغزى حديثي فهي كما عهدتها ذكية جدا فقلتُ لها:

‏الخيال هو الجنون، يغادر بنا نحو مهام خطيرة وبالرغم من ذلك فالخيال صنعة لايبلغها إلا الإنسان المُلْهم.

قالت:

‏أجل بُني، المدهش أن الخيال يحكم أحلامنا فهو يحفّزنا بصورة مستمرة لإنجاز أعمال لم نفكر بها من قبل، ويقف دون قناعتنا باليسير.

بعد مرور أسبوع على حديثي مع أمي لاحظت رغبة أمي القوية في العودة مجددا لمقاعد الدراسة

بدأت أمي بالدراسة بالفعل وتمكنت من الدخول في أعمق نقطة ممكن أن تصل إليها وهي منقطعة عنالدراسة أعواما طويلة.

لكنني كنت على ثقة من تفوقها لأنها كانت مُبدعة في كل شيء، اختارت أمي دراسة اللغة الانجليزية لأنها كانت تشجعنا على اكتساب اللغات المتعددة كوسيلة مهمة للتخاطب مع جميع الشعوب وكانت اللغة الانجليزية سهلة بالنسبة لها، لأنها كانت تتابعني في دراستي، وتقرأ لي القصص باللغة العربيةوالإنجليزية.

قطعت أمي شوطا كبيرا في دراستها، وكان الجميع يشدّ على يديها مشجعين وفخورين بها كانت تقول لي بني طارق:

‏ممتنةٌ أنا لك؛ لأنك شجعتني على خوض غمار حياةٍ أُضيفت لحياتي فالحياة لها طعم آخر بالدراسة والتحصيل.

بُني طارق:

أنت شمسٌ ساطعة في حَياتي.

أشكرك بُني لأنك أضأت الطريق أمامي،

‏ لقد أثرت زوبعة من عناصر الجمالِ فأبت أن تظلّ من الرواكدِ في قعْر القلوب.

كم ساعدني ذلك في تنقية سبيلي من طفيليات الجهل.

كنت بجانبها أساعدها في كل شيء كما كانت تساعدني تماما، أسدد آراءها، نتباحث في مختلف النظريات، لا أسمح لأحد من أن ينتقص من شأنها.

وُلِدت أمي من جديد واستطاعت تذليل جميع المشاق بالاتكال على الله تعالى.

لقد شقّت طريقها بين صفوف طالبات العلم ثم انعطفت لتكون من ضمن صفوف الموظفات في إحدىالجامعات بعد حصولها على الشهادة الجامعية بتخصصين مختلفين أولهما اللغة الإنجليزية والآخر علوم الحاسب.

في ختام حديثي عن أمي يخالجني شعور الاعتزاز والفخر بأم طارق، وكنت ألاحظ علامات الفخر أيضا ترتسم على قسمات وجه والدي فلم يستطع معاودة قوله:

زوجتي قابعة في المنزل.

‏هناك أمور تعيد الحياة لنصابها في نفسك:

‏أولها:

افعل شيئا طالما أخبرك أحدهم بأنك لن تقدر على القيام به.

‏ثانيها:

افعل أمرا خارج منطقة راحتك، فأحيانًا تعمل الأمور التي تُخيفنا على تطويرنا من حيث لانعلم.