آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 11:39 م

«من قصص الناشئة»

طيرٌ مُغردٌ في سربه

ليلى الزاهر *

كان ابني زين بجانبي وهو يحرك مقاطع الصور الجميلة التي التقطها في آخر رحلة مدرسية له مع رفاقه.

كانت الصورُ تحكي أطرف المواقف الشبابية، كما كشفت لي بعضُ المقاطع الحركية ملامحهم التي أسعفتني للتعرف على بعض أصولهم العائلية.

وظهر لي صديقه محمود بملامح تختلف عن ملامحهم قليلا فسألت زين:

بُني من هذا الصبي الذي يبدو بملامح مختلفة عنكم؟

فقال: تقصدين صديقي محمود؟

نعم هذا محمود، ثم تابع حديثه وابتسامته تشقّ وجهه قائلًا:

أمّه من جنوب شرق آسيا، والمسكين يلقى الكثير من المضايقات من الأولاد بالمدرسة، بيد أنّه ولد مجد، كما أنّه يحصل على المراكز الأولى في كل عام.

هل تعلمين يا أمي أنّه يُجيد الحديث بثلاث لغات منذ سنينه المبكّرة.

قلت له: لابد أنّه ولد ذكي حماه الله وحفظه لوالديه.

زين: أجل يا أمي، محمود ولد ذكي ومتواضع جدا، يساعد الجميع، ويمدّ يد العون لجميع زملائه

كنت أرى في عيني زين جميع ملامح الحبّ لصديقه محمود، أرقب تقاسيم وجهه المشرقة عند الحديث عنه.

عرفتُ بعدها أن والد محمود تزوج من أمه في إحدى رحلاته العملية، فقد كان رجل أعمال يتردد كثيرا على جنوب شرق آسيا وتعرف على زوجته هناك.

ورث محمود من أمه الصفات الظاهرية وورث من أبيه الجسارة والقوة.

أما تجريم المجتمع له بملامح والدته التي لاناقة له فيها ولاجمل فقد كانت تضايقه كثيرًا، وربما هي الخطيئة الوحيدة التي لصقت به في نظرهم.

إننا ورثنا عن آدم جمال الصفح والمغفرة لم نرث عنه الخطيئة التي لا تُعدّ خطيئة مطلقا كما في حالة محمود.

كان هذا رأي ابني زين الذي قرّب محمود له كثيرا، وكان دائما يعتز بصداقته ويثني على دماثة خلقه وسمو نفسه بمعالي الأدب والكمال.

يعتصر قلبه ألما على صديقه وطالما كان يواجه صلافة الأولاد وسوء تهذيبهم مع محمود، وقد يصل الأمر إلى إثارة بعض المعارك الشبابية التي غالبا ماكانت تنتهي في مكتب الإرشاد الطلابي في المدرسة.

كنت عندما أرى زين بهيئته الرّثّة بعد معركة شبابية أجزم أن طرفي رحاها لابد أن يكون صديقه محمود، بينما يظلّ زين يصارع ماخلفته تلك المشاجرات ألما عاصفا يعصف بجميع من في المنزل وغالبا ماتنتهي موجة غضبه تلك ليقول متأثرا:

نحن بريئون من ذنوب آبائنا.

فأعقبُّ على حديثه وأهدئ من غضبه: لابأس عليه يوما ما سوف تنتصر تلك الملامح على جميع الموروثات البائدة وسوف تكون هباء منثورًا، سيُزهر محمود بحلّة جديدة فلا تخف عليه، بل سوف يكون من أفضل الشباب وأزهاهم خلقا.

قال زين متألما:

إنّه من الغباء والبلاهة الحكم على الناس من مظاهرهم الخارجية وملامحهم التي تطفو فوق السطح بينما لو توغلنا في أعماقهم الصافية وتصفّحنا ماتحتويه عقولهم سوف نرى الكنوز الدفينة.

سوف أترك دفّة الحديث لولدي زين ليضع ختاما أبهرني حزنا عندما سطر حروفه حياء مني قائلا:

أمي قد لا تستقر أوضاعنا على حال واحدة نتعارك مع الأقدار نصرعها، وتصرعنا.

آه يا صديقي كم اشتقت لك!

هذا الفضاء يا صديقي

وذاك شرُوق الشمس

هناك الكثير من النشوة وسط أعماقنا وفي الجانب الآخر يُطفئ الفرح جميع الآلام ويمحو ملامح الهموم.

بقيتُ دقائق وأنا أتأمل صورة محمود، لم أستطع أن أسلخ نظري عن إنجازاته، اختفت جميع تقاطيع صورة الفلبيني في ذهني وحلّت محلها أجمل إطلالات الرجل الحاذق، نعم واصل ياصديقي أيّها الطبيب ولاتكشف لهم أسرار ك فلاحدّ لطموحك.

اقتطعت صورته من إحدى المجلات العلمية وخبأتُها في أحد كتبي، أفتح الكتاب وأعاود النظر إليها وأضمها، وأتذكر صديقي محمود ثم أعاود عملي، أخشى أن يباغتني أحدهم وأنا أنظر لصورته لعله يعتقد أنها صورة لحبيبتي.

ثم أنهال على نفسي بوابل من الشتائم.

نعم لقد رفضت أن يكون محمود زوجا لأختي عندما تقدّم بطلب الزواج منها.

أيها الأحمق مازالت بداخلك ملامح العنصرية الجوفاء

لقد رقصتَ فوق جروح الملامح وكانت كلماتك سيوفا مُجحفة تردد:

يغرد الطير في سربه يا صديقي!