آخر تحديث: 18 / 4 / 2024م - 1:50 م

مسلم بن عقيل الحنكة والعطاء

ليس من السهل عليك الكتابة حول الشخصيات العظيمة وأخذ خيط من أثر سيرتهم لمحاولة استكشاف واستبيان ما كانوا عليه من صفات جليلة ومواقف شامخة وفكر نير يتعاطى مع الواقع بما يتناسب معه من أدوات وقدرات عندهم قادرة على التكيف معه دون التخلي عن القيم والعمل الرسالي كشخصية مسلم بن عقيل، فمن ذا الذي يدعي أنه يمتلك من أدوات المعرفة ما يجلي حقيقة مسلم وسر وصوله إلى مرتبة السفارة لإمام زمانه دون غيره؟

ولكننا إذا توقفنا أمام النص الوارد عن الإمام الحسين حينما أرسله إلى الكوفة، والذي عبر فيه عن مكانة مسلم بأنه الأخ للإمام المعصوم، ومن نال ثقته والاطمئنان لمؤهلاته لحمل هم الرسالة والقيادة في منطقة مضطربة كالكوفة، بل وهو المفضل في صفاته الغراء من بين أهله وقرابته، فهذه الصفات الثلاث تعد مفاتيح المعرفة ومنطلق الفهم والوعي بمكانة مسلم بن عقيل ، فكلمة الأخ في أدبيات الروايات الشريفة والتي عبر فيها الرسول الأكرم ﷺ عن أمير المؤمنين بأخيه، بأنها تدل على الدرجة العليا في الكمال والفضيلة والسمو الروحي والأخلاقي والمواقفي، فمن لاحظ في سيرة مسلم بن عقيل علاقته بربه فسيجد فيه سيماء الأولياء الصالحين ممن دأبهم الطاعة وملازمة الذكر والمناجاة والصلاة، وفي اللحظات الآخيرة من حياته الشريفة - وقد أيقن بالشهادة - ما كان له هم ولا طلب إلا أن يحظى بقرب محبوبه والوقوف بين يديه، فكان طلبه منهم أن يمهلوه ليصلي لله عز وجل ركعتين يختم بها حياته راضيا صابرا محتسبا الأجر والثواب من المنتقم العزيز، وكذا إذا نظرنا في مواقفه التي تنبيء عن جلالة قدره ورفعة شأنه فإننا نستجلي شيئا من حقيقة هذا العظيم.

لقد آلى على نفسه التمسك بالحق وراية الهدى والدفاع المستميت عن داعية الإصلاح والأمر بالمعروف، ففي اختبار إلهي كبير للعباد بنصرة الإمام الحسين أو التخلي والتواري والانسحاب واتخاذ موقف التفرج، آلى على نفسه أن يكون في زمرة الصالحين وأولياء الله تعالى كما كان ذلك دأبه، وطريق نصرة الحسين وعر وصعب ويسير فيه من تخلى عن أهوائه وحب الدنيا والبصيرة الواضحة لتحديد الموقف الشرعي والثبات عليه، ومسلم بن عقيل كان الكفؤ الذي يمتلك من المؤهلات المعرفية والروحية والإدارية والحنكة ما يتيح له رفع راية القيادة نيابة عن الإمام الحسين.

وتلك الأحداث السريعة في الكوفة والتي أدت لتخاذل الناس عن مسلم، فأصابتهم بالانكسار والتخاذل النفسي، فخيانتهم لبيعته كان العامل الأساسي في انقضاض جيش الأعداء على مسلم، ولكنه خالد في الأذهان والضمائر ما بقي الليل والنهار بما كان عليه من الشجاعة والبطولة والثبات في أشد الظروف.

لابد من التحقيق والتوسع في البحث عن مكنونات شخصية مسلم بن عقيل والتي أهلته ليكون سفير الدعوة والقيادة تحت راية الإمام الحسين ، بلا شك أن تلك الثقة التي منحها المولى الحسين لمسلم تكشف عن عظمة إيمانية وفكرية وإدارية، وقد كشف ارتجازه الشعر عن موقفه الصلب بالمضي في المواجهة مع الجيش الجرار الذي أقبل لقتاله دون تراجع أو هوادة أو تردد، وإن أقصى ما يمكنهم الوصول إليه هو قتله ولكنه ليس بالأمر الذي يهابه مسلم، كيف وهو تربية الأبطال الشجعان من سلالة هاشم وبالأخص عمه أمير المؤمنين ؟

وثبات مسلم على مبادئه وقيمه الدينية والأخلاقية من معالم شخصيته رفيعة الشأن، فحينما تأتيه فرصة التخلص من عدوه في بيت شريك بن الأعور يرفضها؛ لأنها تضمنت القتل غدرا وهذا يعني عند مسلم اغتيالا للقيم الإسلامية وهذا ما يرفضه، يأبى الانحدار نحو وحل الخديعة والخيانة فهذه ليست من شيمه وطباع فعاله، بل خلد ذكره على مدى الزمان بشرف يطال كل صفحات التاريخ البشري، كقائد عظيم لم يضعف يوما وإن تفرق الناس من حوله، وخاض المواجهة بشرف التضحية والتفاني والوفاء بالعهد مع إمام زمانه، ففي غربته أعظم الدروس في الاتزان الفكري والانفعالي وضبط النفس وتحديد الهدف والثبات عليه.

مسلم بن عقيل كان عنوان العشق الحقيقي لدينه وإمامه والعمل من خلال أنوار الإخلاص والهمة العالية، ولقد تفاعل مع حركة الإمام الحسين الإصلاحية بكل تفان ونشاط وتفاعل بذل في سبيل ذلك كل ما يملك، فهذا الكون ما زال يتردد بين جنباته صدى صوت مسلم الداعي للحق والفضيلة والالتفاف حول أولياء الله تعالى ورفض الظلم والعدوان والوقوف بوجه الطغيان.