آخر تحديث: 20 / 4 / 2024م - 2:34 ص

الجُنون المحمود في عشق الحسين.

ليلى الزاهر *

يتخذ الحبّ أشكالًا مختلفةً وقد يصل لأعلى ذروته في القلب البشري حينما يُفتتن العاشق بمعشوقه، ويغطي الحب جميع أجزاء القلب، وقد حفظ التاريخ قصصا عديدة لعشاق وصل بهم الحبّ لأعلى درجاته، مثل حب قيس بن الملوح لابنة عمه ليلى، وحب ابن زيدون لولّادة بنت المستكفي، ومن منا لم يسمع بمجنون ليلى وتعاطف مع قيسها؟

قصصٌ سمع بها القاصي والداني وخلّدها التاريخ في عمق ذاكرته، ولكن لاتوجد قصة عشق تضاهي قصة حبّ الحسين التي وضع أساسها الله تعالى عندما قال نبينا محمد ﷺ: «حُسَيْنٌ مِنِّي وَأَنَا مِنْ حُسَيْنٍ أَحَبَّ اللَّهُ مَنْ أَحَبَّ حُسَيْنًا حُسَيْنٌ سِبْطٌ مِنْ الْأَسْبَاطِ» وهذا الحديث حسنه الترمذي والألباني

«أحبّ» الله من أحبّ حسينًا، ضعها بين قوسين في عمق ذاكرتك، نحن نحبّ الحسين بشدة لأن العشق الحسيني هرم تصدره حب الله تعالى للحسين

ثمّ يأتي حبّ النبي الأعظم لحفيده من زاوية أخرى والذي انتقل لصحابته وللبيت العلوي ولكافة الأنصار والمهاجرين، وتأتي الزاوية الأخيرة المُكملة للهرم، ذلك الحب المتوارث في الأجيال جيلًا بعد جيل وقرنا يتلو قرن.

وحقيقة نراها في أنفسنا أنه كلما مرت أعوام ازددنا تعلقا وحبّا بالحسين، ولن نرضى بمجرد ما نسمعه فقط؛ ورفضنا التّلقين، واتجهت عقولنا بصرامة للإجابة على أسئلة واستفسارات كانت بمثابة امتحانات نؤديها بعد جهد جهيد من الاستذكار.

وباعتقادي أن جنون العشق الحسيني موجود في أحباب الحسين وخدامه ممن توغلوا في البحث عن الحسين بين الروايات الصحيحة أوالمغلوطة، أو ربما عاشوا الحب الجنوني بفطرتهم البسيطة بين كلمة سمعوها وأثر عظيم لامس حياتهم.

وماتجود به مشاعرنا عند ذكر الحسين، وصراخ عاطفتنا يجعل العقل يحيد نحو الجنون؛ ولكنه الجنون المحمود الذي يبتعد عن التصريح بلفظ الجنون في شعاراتنا.

من جانب آخر نحن نقول دائما من أحبّ شيئا أكثر من ذكره واشتاق لورده؛ فمن أحبّ فريضة الحج لم يكتفِ بالحج لمرة واحدة، ومن أحبّ حسينًا هام في عشق قضيته طوال العام، وغرف من نبع معينه دون أن يرتوي ولا تثريب على كلّ من أحبّ الحسين بجنون لأن قصة عشق الحسين مستثناة من جميع قصص الحب ولا ضير في أن نكون مجانين للحسين وذلك لأسباب عديدة وهي:

أولًا: جنون عشق الحسين يقود للعقل فهو من الجنون المحمود الذي يرفع صاحبه درجات في الدنيا ويقيه شر الحطيم في الآخرة.

كيف بمن كرس جهده وماله وأطعم الطعام بمسمى مجنون الحسين؟

كيف بمن حقن الدماء بالتبرع بدمه؟

كيف بمن يذكر الحسين في كل يوم ويبكي مصابه بحرارة ويتمنى نصرته؟

ثانيًا: إنّ كربلاء الحسين رمزٌ للتضحية والفداء وفيها سيل هادر من قصص الولاء الحسيني، بيد أن الوحشية الإنسانية صاغت في طرقها قصصا إرهابية من أبشع أنواع قصص القتل والسبي، فقد قتُل الإمام مثل الكبش، ولم يكتفِ القوم بقتله وإنما سلبوه وقطعوا رأسه في أبشع صورة ممكن أن يرتكبها إنسان في حق أخيه فكيف عندما يكون المذبوح ابن رسول الله وهذا أدعى لحالة جنونية تُصيب من حضر كربلاء ورأى بأم عينيه الفوادح المؤلمة التي حلّت بواديها، في الوقت الذي لايوجد ابن نبي غير الحسين على وجه الأرض كما ذكر ذلك في خطبته مُذكرا وناصحا لهم بعدم قتله.

ثالثا: حبّ الحسين الجنوني هو ليس شعارًا فحسب وإنما هو واقع معاش طوال السنة، فحب المرأة الحسينية «الملاية» لإقامة مأتمها السنوي وقد تهالكت صحتها أكبر برهان على عمق الحب في قلبها، وثم إرث هذا الحب أسرتها جيلًا بعد جيل حبا لأبي عبدالله.

وتلك معالم الجنون العقلية التي تدفع الإنسان أن يفتخر بمسمّى مجنون الحسين.

رابعًا: كما قلت سابقًا حب الحسين مؤسسة عظمى وضع قواعدها الأولى الله سبحانه وتعالى، وهذا ماصرحت به السيدة زينب في وقفتها المشهورة على الأجساد المسلّبة عندما خاطبت الإمام زين العابدين وقد وضعت أقصى الأبعاد التي ممكن أن تصل لها القضية الحسينة قائلة:

«لقد أخذ الله ميثاق أناس من هذه الأمة لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض، وهم معروفون في أهل السماوات أنهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرقة فيوارونها، وهذه الجسوم المضرجة، وينصبون لهذا الطف علما لقبر أبيك سيد الشهداء لا يدرس أثره، ولا يعفو رسمه، على كرور الليالي والأيام وليجتهدن أئمة الكفر وأشياع الضلالة في محوه وتطميسه، فلا يزداد أثره إلا ظهورا، وأمره إلا علوا».

وما أشار إليه سماحة الشيخ الصفار يدعو للبحث المستمر، وتجريد السيرة الحسينية مما لحق بها من أمور لاتمت لها بصلة

فالعاقل من يُحلل ويقارن ويستنتج ويصبو إلى أبعد نقطة في تمحيص الحقائق وبلوغ أقصى درجات الصواب في القضية الحسينية. فضلًا عن استبعاد الألفاظ التي لاتليق بالحسين كإمام مفترض الطاعة نذر نفسه وضحى بها من أجلنا.

نحن لا نستبعد وجود أيدٍ تحاول التقليل من شأن إقامة الشعائر الحسينية لإظهارها بمسميات لاتليق بما قام به الحسين وأهل بيته وأصحابه وإخراجها بشكل فكاهي والتندر عليها، وفي الوقت ذاته نشجب بعض السلوكيات الخاطئة كالمشي فوق النار مثلا حبّا للحسين وإيذاء النفس وإهانتها وقد كرمها الله تعالى لأنها أمور يجب أن يضع لها حدّا من قِبل المنبر الحسيني.

إن خلف مظاهر الغلو التي لحقت بالسيرة الحسينية يد تحاول تشويهها وهذا ما أشار إليه الكثير من الباحثين، وهو أمر يأخذ وضعه المعتاد، فقضية بضخامة قضية الحسين لابد أن يترصد بها من يحاول خدشها، ولكن لا قرّت أعين تحاول ذلك لأنها لابد أن تنكفئ دون عودة فالله خير حافظا.

خلاصة ما أريد قوله لماذا لانبحث في جوهر قضية الحسين؟

ولماذا تُثار زوبعة عاطفية كل عام بذكر حدث جديد خضع مسبقا للاجتهاد؟

أليس في اختلاف أمتي رحمة، واطلاع وبحث، ثم تمحيص وإثراء فكري مطلوب؟!

مايجب أن ندركه أن خيوط كربلاء متعددة مهما تداخلت في نسيج ما سوف يكون لكل خيط كيانه المستقل، ومهما تداخلت الأصوات الناعية سوف تحلّق في الفضاء الرحب ويظهر بريقها دون أن تختفي صورة الحسين أو دون أن يتلاشى صوته.