آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 10:36 م

النشر وأرجوحة المشاعر الفارهة

أثير السادة *

بالأمس، ”ذاك من ذاك“ الذي ينال حظوة الظهور ومعانقة النور على صفحات الجرائد والمجلات، كان الطريق غير واضح من جهة، وغير سالك للجميع من جهة أخرى، كانت الصحف تفتح صدرها لصور اللاعبين والمشاهير، ووجوه الكتاب الذين تربعوا على عرش الصحف، باعتبارهم أصحاب أمتياز على مستوى الكتابة، فيما كان هنالك هامش صغير يفتح ويغلق هنا وهناك للقراء، ممن يشتهون مزاحمة الكتاب بالركب، وتمرير تعليقاتهم وصورهم في هوامش الحياة داخل الورق، كان هذا الهامش كبيرا بالنسبة لحالم صغير، يحلم بأن يرى إسمه ورسمه في طبعة الصباح، هامش كاف لرفع منسوب الثقة في ملكات مازالت في بداياتها.

رفض النشر في البدايات لكاتب مبتدئ يعادل حكما بالاعدام على مشوار الكتابة، رفض سيوقظ كل الشكوك في القدرة على صفصفة الحروف، شكوك لا يعالجها إلا تكرار المحاولة، وتجاوز آثار المحاولة السابقة، فالمبتدئ يجد في القبول والرفض شهادة على النجاح والفشل، على الصواب والخطأ، وعلى أهليته في الدخول إلى نادي الكتابة.

وكما يحمل الرفض مشاعر فائضة من الارتباك، سيحمل القبول والنشر مشاعر فارهة من الفرح والسرور، تلاوين من البهجة لا توصف، ستكون بمثابة وقود للمضي في الكتابة عن أي شيء، لأجل تعزيز القدرات، وتوسيع دائرة المسرات، سأتذكر سهري في الإجازات وملاحقتي لسيارة توزيع الصحف في الفجر، من أجل التأكد من نشر مقالة قصيرة، سترسم في مخيلتي الكثير من الخيالات حول ردود الأفعال، وتعليقات الناس، وهي في الغالب أشياء لا تحدث في الواقع!.

بالأمس لا يجد الكاتب هذا الزخم من اللايكات والتعليقات، لا يعرف سيل المتابعات والإحالات، لم يكن ثمة سبيل للوقوف على طبيعة تفاعل الناس مع مقالاته إلا إذا أخذت الحماسة أحدهم وترك تعليقا على مقالته، حماسة قارئ يبحث هو الآخر عن بقعة ضوء، وعن لحظة يطل بإسمه أو رسمه على الناس ولو كان ذلك في شكل سفرة تفرد للعائلة في لحظة الغداء.. كان الشعور بالرضا مرهون بحفاوة الصحيفة بالكاتب، وحفاوة الأصدقاء والأقارب.

اليوم لا يجد الكاتب المبتدئ من يرفضه، أو يمنعه من النشر، هنالك مساحة واسعة من المنصات، لن يناله وخز الرفض الذي نال أمثاله في الزمن السابق، سيجد في تعداد اللايكات، وتكاثر التعليقات، وتزاحم المتابعين أسبابا أخرى لتعميد الثقة بالنفس، والذهاب بعيدا في تجربة الكتابة، في المقابل سيرى في غياب اللايكات ما يشبه العقاب، أو الخسارة في الرهان، ستتأرجح الثقة بين وقت وآخر على مؤشر تحدده اعتبارات كثيرة، لا صلة لها أحيانا بقيمة المكتوب، ولا جدارته، الأمر الذي سيجعل من الكاتب الجديد قامة تصغر وتكبر في كل مرة بحسب المؤشرات التي دفعت لها مواقع التواصل والنشر الفوري.

بين المقالة الأولى والمقالة الأخيرة جسر طويل تأرجحت فوقه الكثير من المشاعر، وكتاب اللحظة الرقمية قد لا يعيشون دهشة المسافة تلك، وهم يتمددون في فضاءات مفتوحة، لا دليل فيها ولا علامات على اجتيازنا المحطات، إلا أوهام اللايكات التي تروينا بالماء أحيانا، وتذرنا في سراب طويل أحيان أخرى.