آخر تحديث: 18 / 4 / 2024م - 7:35 م

ما زال مشهد الأربعينية يتكرر

علي عيسى الوباري *

ولائي ا?عبر به الوديان على ضوء اشتياقي لك حتى ا?شتم رائحة ترابك، ا?هجر المأوى إلى موقعٍ باقٍ للخلود، ا?حثُّ الخطى وا?ترك آثار قدميَ في درب طويل لعل غيري يهتدي على دربي لقبلتك فأحظى بأجر الماشي إلى مثواك، ا?ستنشق أنفاسًا محركةً لجسمي من العشق النابت في لحمي قبل ميلادي، جربت كلَّ ا?نواع الحب لم ا?تذوقْ حلاوةً إلا بالقرب من مثواك، فتحت كلَّ نوافذ تجلياتك بالحزن والبكاء فتمددَ أملي بين مصرعك وحضرتك الثابتة الباقية في زمن تغيرت فيه اتجاهات الأماكن، حضرتك ثابتة وآثارها تمتد مع الزمن، باقية تستقبل القريب والبعيد ليأنس ببريقها، وميض نداءاتك مسموعة، مناظر الوافدين والمستقبلين ملأت العيون وصدى نداءك ما زال مسموعًا، ا?ضواء القبة والمنارات تشع للمشاية، حملت همومي ا?رتجي تضحياتك بالأمل والفرج.

الإنسان بعصر ا?دوات التواصل الاجتماعي يعيش عزلة اختيارية، اختفى العمل الجماعي وزادت الا?صوات للعمل عن بُعد بواسطة الا?جهزة الذكية والتكنولوجية الرقمية.

الإحساس الجماعي بالحدث تجربة جميلة وممتعة، أن تمارس الفعل المستحب جماعيًا مع الآخر في زمن الشبكة العنكبوتية لتكسر المشاعر الفردانية وتعود لروح الجماعة، التعاون الجماعي بين الناس سبب التطور والتقدم البشري، وفي الحركة نمو وحياة وتعمير للأرض وإصلاح للنفوس.

مقامك من بقي شامخًا صامدًا، يجذب الجماهير الهادفة بخطواتها تحمل رسالة الرغبة في الأجر والثواب، الحشود التي تمشي بعنوان مقدس تتأثر بمضمون وشعائر العنوان يدخلون في هوية الجماعة التي لها خصائص متوافقة وقلوب متآلفة تشكلت عبر ثقافة خطاب منبري متراكم لمئات السنين، توقفت الحشود في زمن جائحة كورونا إلا لمزارك تهرول إليه النفوس قبل الا?جساد، تذوب فيه الهويات الفردية وتتشكل بهوية المُشاة الجماعية الا?ربعينية المستمدة من مبادئ دينية وقيم سماوية، شعار السعي التضحية والمشي للتزود بمَعين الشهادة.

نَسَقُ حركاتهم موحدٌ، روابطها الولاء والحب والعشق، الطرق والشوارع مسرح يؤدوا فيه المشاة دور واحد نحو هدف واحد بقيادة رائد الإصلاح في أمة جده، مجموعات تعرف هدفها وتسعى إليه بسلام وأمان تشكل قوة بفهمها لرسالة القائد وليس ممارسة التنويم المغناطيسي بالجماهير كما يقول جوستاف لوبون، تعالج نقاط ضعفها بنقاط قوة من تصاحبه وتلازمه، يتعزز الفرد الواعي بالوعي الجمعي، يتكاتف الكلُّ ليمثلَ كيانًا واحدًا تذوب فيه خصائص الفرد في روح الجماعة لأنها الا?قوى، يتجاوز الشخص قوى الا?نانية من ا?جل المصلحة العامة، يتجرد من ا?نانيته عندما يرى ا?فرادَ الجماعة تتضامن ويؤثرون بعضهم على بعض.

بُني التعليم على الجمع في صف واحد يتخاطب التلميذ مع زملائه ويتعلم منهم كيف يرفع مستواه التعليمي، التدريب يصبح ا?سهل مع الجماعة التي تتدرب على نسق موحد ونظام معين، هذه جماهير الرياضة تشجع بعضها بالنهوض بفرقها وبرياضيها فيكون صوتها واحد وا?قوى، لماذا النقد الموجه للمُشاة عندما يتساوون في طريق واحدة نحو هدف معروف يعيشون قيمه بعقولهم وقلوبهم، وتتعزز علاقاتهم بالولاء والحب.

ما يلفت النظر بفريضة الحج هي الجموع في ا?داء الصلوات بمكان واحد وطواف جماعي مهيب والسعي بين اتجاهين، الذهاب نحو رمي الجمرات فيه هيبة ويشكل قوة سلمية واحدة نحو نبذ العنف وعدم سيطرة الشيطان.

من الخطأ تحليل كل سلوك الجماهير حسب ما فسره وحلله جوستاف لوبون بعلم النفس الاجتماعي، أنها مسيرة تاريخ واحد ورسالة دينية سماوية لها مبادئها وقيمها المؤثرة في الجمع، فمدخلات التربية الدينية والتعليمية والثقافية مختلفة، حين تختلف ا?هداف الجماهير يتغير التصرف فالسلوك مبني على المعرفة والنصوص الدينية التي تحث على التعاون والعيش بسلام وأمان مع الغير، عندما يشتد الانتماء للحشد يزداد إحساسهم بالأمان لأنهم محاطون بأشخاص محبين وداعمين هذه إحدى نتائج دراسة الدكتور هاني النابلسي في رسالته للدكتوراه بجامعة ساسكس عام 2015 في دراسة عن الحج وانتهى بدراسته ”أن الحج ظاهرة ثقافية كونية لها ا?بعاد إنسانية خفية“ تزيد التعاون وإحساس الأمان بين حشود الحجاج.

هوية الجماعة مختلفة عندما ترى التنظيم والتطوع والتعاون والإيثار والعمل الجماعي المنسّق الساعي لهدف مقدس يتخلله ا?داء عبادات واجبة كالصلوات وشعائر مستحبة، لا هويات قاتلة ولا ا?عراق ولا قوميات تدعو للعصبية حين تؤدي دورًا واحدًا لجهة مقصودة تمثل رمزًا وقائدًا يحمل صفات يدعو للوحدة والإصلاح ونبذ الكراهية، ما زال المشهد يتحدث بجمالياته والمتلقي ينظر إليه بهيبة واحترام سواء اتفق معه ا?و اختلف معه.

‏مدرب بالكلية التقنية بالأحساء،
رئيس جمعية المنصورة للخدمات الاجتماعية والتنموية سابقا.