آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 1:33 ص

الكتابة ومستقبل الذاكرة

محمد الحرز * صحيفة اليوم

لا يمكن أن يتصور الواحد في ذهنه ولو من باب التخيل، أن هناك مجتمعات لا يوجد فيها كتّاب أو مؤلفون في شتى المجالات، أو أن الكتابة في حد ذاتها ليست قائمة، لا في ثقافة المجتمع ولا في تعليمه أو تربيته.

تاريخ الكتابة يقول: لقد انتهت المرحلة الشفهية عند المجتمعات كافة، ولم يترك التطور الحضاري للإنسان موطأ قدم لتلك المرحلة؛ لتؤثر في ثقافة المجتمعات المعاصرة، وبالتالي تصرفه عن قوة تأثيرها وتغلغلها في مفاصل الثقافة، اللهم إلا بعض القبائل التي ظلت تعيش على هامش الحضارة، في بعض المناطق النائية من العالم.

لذلك لا جدوى من الحديث عن عالم الكتابة بعدما أصبحت إحدى المسلمات الكبرى، التي تمتاز بها الثقافة المعاصرة، من حيث كونها غدت جزءا لا يتجزأ في تفاصيل حياتنا اليومية؛ إذ يكفي أن نشير إلى أن لوحة مفاتيح الكمبيوتر «الكيبورد» هي الخريطة التي لا يمكن الاستغناء عنها أبدًا، في إنجاز أغلب معاملاتنا اليومية. ناهيك عن ارتباطها الكبير بالتطور التكنولوجي، الذي يشهد تسارعه العالم أجمع.

لكن الجانب الذي يهمني من التطرق إلى عالم الكتابة هو جانبها الإبداعي الإنساني، الذي خلف وراءه إرثا إبداعيًا يشكل في مجمله تاريخ الإنسان في التعبير عن تحولاته أمام الحياة والعالم والكون، بإظهار مكنوناته النفسية والروحية ومشاعره وتقلباتها.

وهذا ما يعطي للكتابة صفة الذاكرة الكبرى للبشرية جمعاء، التي لا يعادلها أي ذاكرة يمكن أن يخترعها الإنسان ولو مستقبلا.

لكن ثمة تمايزا واختلافا بين مجتمع وآخر، فيما يخص موقع الكتابة «باعتبارها تعبيرا إنسانيا بالدرجة الأولى» وقيمتها وأهميتها، فالبعض لا تحتل عندهم المراتب الأولى من سلم القيم الاجتماعية والثقافية، فترى أصحاب المواهب الكتابية في صنوف الإبداع لا يشكلون قوة ناعمة، ولا قيمة اجتماعية عندهم، عكس الحال عند الذين يضعونها في المراتب الأولى في سلم قيمهم، فتراهم متقدمين ثقافيا واجتماعيا في كل المناسبات. وضمن هذا الإطار هناك مهرجان شعري عالمي يقام في إحدى دول أمريكا الجنوبية، ففي يوم افتتاح المهرجان، تخصص فيه المقاعد الأمامية للشعراء الكبار من البلد ومن ضيوفه، وخلفهم يأتي المسؤولون من كبار الشخصيات. هذا الموقف معبر تماما عن الفرق بين القيمتين.

أيضا هناك اختلاف نقع عليه حينما ندرك أن المشهور عن الكتابة حين يلجأ إليها المبدع، يكون هذا اللجوء بدافع الحزن والمكبوتات النفسية والوحدة والخوف..إلخ من مجموع هذه العوامل. لكن لم يعد هذا المشهور ينطبق على كل الأفراد أو مجتمعات تختلف في صفاتها الروحية والثقافية والبيئية عن مجتمعات أخرى.

هناك أفراد يكتبون بدافع الفرح والمحبة الإنسانية، تحس بأنهم من عالم آخر، ليس فيه من صفات البشرية وتناقضاتها ما يطل برأسه. ويمكن أن ندلل على الكثير منهم. لكن لا يسع المجال لذكرها هنا.

وبالعودة إلى الارتباط الوثيق بين الذاكرة والكتابة، أصبح الحلم الأكبر عند الإنسان أن يصنع ذاكرة إلكترونية لا يغفل صغيرة ولا كبيرة في حياته أو تاريخه، إلا وسجلها في شرائح صغيرة، تعبر عن الإمكانية العلمية التي يطمح فيها الإنسان لتخليد حياته على هذه الأرض.

وبالتالي تصبح فكرة الخلود لا ترتبط بالكتابة عند أفراد محددين كما عرفناهم عبر التاريخ، وإنما تتجاوزها إلى فكرة الكتابة المتماهية بالذاكرة وكأن فكرة الكتابة نفسها أصبحت ذاكرة فقط، وأصبح لدى الإنسان الحق عبرها أن يخلد حياته مهما كانت هذه الحياة لها قيمة للوجود البشري أو تافهة، فالخلود حسب عمل الذاكرة لا يميز بين الاثنين.