آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 2:48 ص

شيخوخة الضمير

أثير السادة *

سنة الحياة أن نكبر ونهرم وتخور قوانا وتتراجع مؤشرات العافية، فهذا التقدم في العمر ينقلنا من حال إلى حال، ومن مرحلة إلى أخرى، حتى وإن حاولنا إبطاء هذه التحولات وقطع الطريق عليها ستظل تلوح لنا في نهاية الطريق كقدر لا مفر منه.. يحدث كل ذلك لأن للجسم عمراً بيولوجياً يقيده بأحكامه، ويسمه بعلاماته، أرواحنا فقط هي من تملك أن تبقي على صورة القوة والشباب إذا ما استطاعت أن تحافظ على لياقتها، واتزانها، انفتاحها وتفاؤلها، واتساعها في مقابل الثوب الضيق الذي يفرضه العمر البيولوجي عليها.

أشياء كثيرة تذبل مع الوقت، العافية والذاكرة والأحلام، أشياء كثيرة مما لا يمكن استعادتها، لا بالزفرة ولا بالحسرة، علينا فقط أن نقبل تفاسير الطبيعة لها ونتعايش معها، لنهب القلب مساحة أخرى يذهب إليها ويزينها بالأمل، فلا نضع كل الأشياء في زجاجة العمر ونغلق الباب على أفق الحياة الواسع، حتى لا تتحول الشيخوخة إلى شيخوخات تهبنا السقوط في مهب العجز والانكسار.

في المقابل هنالك أشياء من المفترض أن لا تدخل في دوائر الشيخوخة، لأنها من دفاتر أخرى غير دفاتر الجسد، أشياء يزيدها العمر صلابة وقوة، أو هكذا نظن، ومنها الضمير، هذا الوميض الداخلي الذي يرسم حدود المسافة بين الخير والشر، بين الجمال والقبح، وبين الحق والباطل، والذي يحرس الحس الأخلاقي في دواخلنا، به تحيا البشرية وتجتاز امتحاناتها الصعبة، وبه يميز الحي من الميت من الناس، كلما أستوحشنا دروب الحياة وجدناه الدليل في ليلها المظلم.

الضمير لا يشيخ، لكن من أضاع وصاياه في مرايا الوقت فقد حمله على الشيخوخة، من اختار الخديعة لنبضه الحي وانحاز لغرائزه، وأطماعه، فقد أفرغ هذا الضمير من قوته، وأخلاقيته، وأحاله إلى شعور مهمل عديم الفائدة.. وأمثال هؤلاء كثر، تهرم ضمائرهم حتى في باكر العمر، فلا صوت لهم يهتف لمظلوم، ولا حق مضيع، بل يبدلون أرواحهم كما يبدلون مواقفهم، يبتكرون كل شيء من أجل نيل أي شيء، ومعيارهم ليس الضمير الذي شاخ بل المصلحة التي ترفعهم في مقام الأمنيات.

تشعر معهم بأن ضميرهم الذي بلغ الشيخوخة قد أودع دار المسنين، ليرقد بسلام هناك، ولا يثير الوخز فيهم، أو يصرف عنهم اللذة والمتعة في ما يقوده إليه ضعفهم في لحظة اختبار صغيرة تحدث في كل يوم لإنسانيتنا، فنحاول فيها الكذب على ضمائرنا، وإذا ما أتعبنا وخزها طردناها لكي لا تلطخ مغامراتنا بالندم..