آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 11:37 ص

جيل ”سلم على أمك“

أثير السادة *

في الوقت الذي كان الناعي ينعى رحيل واحد من أصدقاء العائلة، تذكرت اللقاءت العابرة والمناسبات المتناثرة التي جمعتنا به، كان كمن يتجول في بستان ذاكرته، وهو يسأل عن العائلة فردا فردا، يهز كل غضن من أغضانه ليرفع عنها النسيان وهو يهندس شكل علاقته بهم من خلال الإمساك بما تبقى من صور وذكريات لهم في الذاكرة.

كان كسواه من هذا الجيل والرعيل الذي يحدثك بزهو عن معارف الأمس، وعن أصدقاء الطفولة، والحي، عن الأشياء التي وسعتها تلك البيوت الضيقة، والأزقة النحيلة، حتى بدت مع الوقت حقيبة مليئة بالعواطف الفائضة، كانوا في قلب المكان لذلك لا يغادرهم الوله لساعاته وعلاماته، لا تشعر بعمق العلاقة إياها إلا حين يشد على يديك، ويتمقل في صورتك، وكأنه يحل خيوط الشجن بالبحث عن صور الأمس فيك.

تتلعثم مرات ساعة يحرص الواحد منهم على توصيتك بنقل السلام الحار للعائلة، وصايا كأنها بطاقات غرامية مختومة بخفق الذاكرة، سلم على أبوك، وأمك.. والدتك لا تنسى تسلم عليها.. ترتدي ابتسامة صفراء عند هذه المحطة لأنه من المحتمل أن يمتد الحديث عن طفولة أمك، أن يجلس الرجل على دكة الذكريات ويغريك للنظر إلى أمك في طفولتها، يوم كانت البيوت متلاصقة، والأبواب مفتوحة، والعصافير تزاحم البنات والأولاد في الأزقة.

أكتشف في هذه الأحاديث العابرة شيئا لا يشبه الحزن أو الفرح، شيئا يحملني فقط للتأمل، والمضي بعدها للاعتقاد بأن الحياة دفتر كبير، وأننا نطوي صفحة لندخل في صفحة أخرى، وأن ملح الحياة يتغير طعمه من جيل لآخر، هؤلاء غرفوا من ماء المكان، وأكلوا من زاده، وتلبسوا صوره، فكان لونهم من لون اللحظة التي لم تعرف المسافة بين الناس ولا بين الدور، ولا بين الأفق الذي أبقاهم أطفالا في مشاعرهم، حتى وهم يعدون خطواتهم الأخيرة في الحياة.

هم كثيرا ما يغمسون ريشتهم في حبر الذاكرة، وحين يحدثونك عن أصلك وفصلك، عن ذاكرة أمك وأبيك، لا يصنعون سوى دعوتك إلى مشاركتهم مأدبة على ضفاف الذاكرة، ومساعدتهم على أن لا يجرفها الوقت في لهاثه السريع، فهبهم سمعك، وقلبك، لأن جيلا ولد على أطراف البساطة يكاد أن يسقط في دوائر النسيان.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 2
1
ابو حسام القطري
[ القطيف ]: 25 / 1 / 2022م - 7:55 م
سرد جميل ودكريات من الايام الجميلة
2
أبو حسين
[ تاروت ]: 28 / 1 / 2022م - 6:32 م
الله يسلمك أستاذ أثير ويسلم كل أحبابك وكل من يعز عليك.. سرد جميل وذكريات تملؤ القلب حنيناً الى ذلك الجيل الطيب "سلم على أمك وسلم على أبوك" نعم عندما يكون الأهل والجيران كالأسرة الواحدة تجمعهم المحبة وصفاء النية وطهارة القلب.. اليوم أيضاً تتوسع الدائرة لتشمل أناساً من خارج الحي، بل من خارج البلد ولكنهم بكرمهم وطيب أخلاقهم وعلو شأنهم سكنوا القلوب.